بونا ديمينياتسا بوكاريستي (*)
Bună dimineața Bucuresti
-1-
وانطلقت الطائرة من مطار القاهرة. هذه هي
بداية الترحال الأول في حياتي. أجلس على المقعد الأبعد عن النافذة، والأقرب للممر
في طائرة صغيرة تابعة للخطوط الجوية الرومانية "تاروم" (TAROM).
لا أعرف طراز الطائرة لأنني لا أعلم من الطائرات المدنية سوي طائرتي "بوينج
707" و"كونكورد" -وبالطبع الطائرة الصغيرة تلك ليست إحداهما. الوقت
يقارب الثالثة بعد منتصف الليل بتوقيت "القاهرة" الصيفي في ذلك الحين –والذي
ألغي لاحقاً كأحد الإنجازات المجيدة لثورتنا- يوم الجمعة السادس عشر من يوليو عام
2010 للميلاد.
بعد تجاوز الإقلاع واستواء الطائرة في طريقها
اللامرئي نحو العاصمة الرومانية "بوخارست"، أخذت أفكر حول ما دفعني
للترحال لذلك البلد الجميل "رومانيا". تلك البلاد الموصومة بالأكثر
فقراً في القارة الأوروبية، والتي دخلت الاتحاد الأوروبي مؤخراً بشق الأنفس بعضوية
غير كاملة. تلك البلاد التي ثار شعبها في نهاية عام 1989م وأطاح بطاغيتها
"تشاوشيسكو" وأعدمه على الهواء مباشرة في غضون عدة ساعات من القبض عليه.
رومانيا بلد الكونت دراكيولا ومصاصي الدماء وأساطير جانب النجوم، تلك العوالم التي
يعرفها القارئون من أبناء جيلي عبر روايات المبدع د.أحمد خالد توفيق. إن الترحال
لمثل هذا البلد كفيل بالإجابة عن الأسئلة التي طالما أرقتني قبل إتمامي العشرين
عاماً. أسئلة تدور حول الثورة وكيف تثور الشعوب لتنتزع حقوقها في الحياة بعد طول
ممات؟؛ أسئلة عن عمارة الأرض والحضارة والفقر والسعادة، وهل يمكن لكل هؤلاء أن
يجتمعوا سوياً في مكان واحد وتحت ظل ذات الزمان؟ وقد ظننت وقتها أن إجابات تلك
الأسئلة ستعطيني الجواب الشافي، والتفسير الذي لا يقبل الالتباس عما آل إليه المآل
في تلك البقعة على الخريطة المسماة "مصر" بلادي المأفونة والمبتلى أهلها
بضنك المعيشة وضيق الأرض التي لم ترحب علينا ولا حتى بنا!
بجانب تلك الأسئلة المصيرية التي ظننت أن حسمها
ممكن في غضون ثلاثين يوماً -هي مدة بقائي مرتحلاً في تلك البلد- كان هناك دافعاً
آخر –ولعله كان الرئيسي- وراء ذلك الترحال .. الحلم. الحلم القديم الذي طالما
راودني بأن اتخذ العلم سبيلاً في الحياة، وأن يكون البحث في ثناياه والكشف عن
أسراره مهنتي التي اعتاش بها ومنها. فالغرض الأساسي الذي سافرت به ومن أجله هو
الفرصة التي ستوفرها لي إحدى الجامعات الرومانية للعمل كمساعد باحث متدرب لمدة
شهر. تلك الفرصة التي لن تكلفهم شيئاً، ولم تكن لتكلف أحد في بلادي شيئاً أيضاً
إلا أنهم ضنوا علي بها كغيرها مما ضنت به علينا بلادنا التي كانت –وما زالت- كليلة
عليلة.
استفقت من تلك الأفكار في منتصف الرحلة التي
انعطف مسارها فوق مدينة "إسطنبول" عاصمة الحلم التركي الجميل والبعيد.
ولا أعرف السبب الذي يجعل مسار الرحلة المباشرة من "القاهرة" إلى
"بوخارست" يتجاوز المسار المستقيم المتوقع بين المدينتين كأقصر مسافة
ممكنة ويتحول إلى إنحناءة تمر بالمجال الجوي التركي -ولعل الأمر كان إشارة خفية إن
إجابة أسئلتي يجب أن تمر عبر طريق "تركيا" وليست "رومانيا"
كما ظننت وقتها. أخذت أحدق بالشاشات المعلقة في سماء الطائرة والتي لم تكن لتعرض
شيء ذا بال سوى معلومات عن مسار الرحلة، وارتفاع الطائرة عن سطح البحر، والزمن
المقدر للوصول؛ وما عدا ذلك فهو العروض الخاصة بشركة الطيران نحو مدن وحواضر
العالم. انتابني يأس قصير بعدم عرض أية معلومات عن البلد التي سنلجها عما قريب على
تلك الشاشات؛ إلا أنه ما لبث أن تبدد بشروق شمس الصباح حين دخلنا المجال الجوي
الروماني وأصبح الهبوط قريباً لتنتهي رحلة الطائرة وتبدأ رحلتي الخاصة.
(*) صباح الخير يا بوخارست!
يتبع . . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق