الأربعاء، 18 يوليو 2012

أُبَاْبَة*


إنها الحياة التي بعثت في "سيجيشوارا"** تلك المدينة المنسية في قلب الريف الروماني. تلك الحياة قصيرة الأمد التي تستمر ثلاثة أيام فقط كل عام هي مدة ذلك الاحتفاء البهيج بالعصور الوسطي. هي الحياة التي أُخذ صاحبنا مشدوها بوهجها المتشبث بتلك الأيام الثلاثة، والتي أفاضت على الناس والموجودات من حوله لتكسبها روحاً جديدة تتجدد بها كل معاني الوصال لهذا الطرف القصي المنسي من البلاد.

يتجول بين الأزقة الضيقة الصاعدة الهابطة في التواءات لا نهاية لها. تختلج قدماه على الطريق المرصوف بأحجار البازلت الأسود التي يربو عمرها على عدة قرون. يستند على الجدران العتيقة بطرقات الجزء القديم من المدينة. ينظر إلى أعلي حيث الزينات المثلثة المعلقة بين الشرفات وعلى مداخل البوابات القديمة ذات الأبواب الحديدية الصدئة. يستمر طوافه بين البيوت القصيرة المكتنزة المغطاة بسقوف مائلة من القرميد المعتق ببياض ثلوج الشتاء وحمرة شمس الصيف. يزداد الازدحام شيئاً فشيئاً كلما اقترب من برج الساعة القديم أهم معالم تلك المدينة الصغيرة. يتفحص بعينيه تلك الأكشاك الصغيرة المصنوعة من أطر معدنية مكسوة بالأقمشة زاهية الألوان المتراصة جنباً إلى جنب على ضفتي الطريق، والتي تضج بمعروضاتها المختلفة من كل صنف ولون في تناسق غير مقصود يزيد المكان حياة فوق حياة.

يتداخل في أذنيه أصوات تصايح الباعة واختلاط الكلمات المنبعثة من الأفواه بألسنة مختلفة، ضجيج الأطفال اللاهين بسيوفهم ودروعهم الخشبية، ثغاء خراف تعد للذبح بمطعم قريب، الموسيقى المنبعثة من إحدى مواكب الأمراء المزعومين لعصور خلت، صليل سيوف معركة وهمية تدور رحاها بين أفراد فريق مسرحي متجول؛ تلك السيمفونية المذهلة من الأصوات بغية اسحضار ذكرى ماضٍ جميل.

غمرته تلك اللحظة النابضة بالحياة حتى ذاب فيها، واندمج في لذة وهج الانبعاث من بعد طول رقاد. يسير بجسده وسط تيار البشر الهادر، وتحلق روحه في براح حيوية المشهد بتفاصيله الدقيقة العميقة التي يحاول تشربها كي لا يفقد جذوة وهج الحياة المتأججة والتي افتقدها منذ زمن بعيد.

في غمرة تلك اللحظة تناهي إلي سمعه وقع لحن موسيقي مميز. يبدأ في إرهاف سمعه يتتبع صدى ذلك اللحن الذي يثير في عقله ذكرى مبهمة لا يستطيع الإمساك بها. يبتاعد صوت اللحن قليلاً إلا أن شيئاً ما يدفعه لأن يقترب منه أكثر. يبحث فيما حوله عن مصدر ذاك الصوت، ويفتش في أعماق عقله عن تلك الذكرى الباهتة المرتبطة بطفولته وبسر ذلك اللحن المنبعث من ثنايا هذا المكان القصي. حتماً تلك الموسيقي مصدرها إحدى الفرق الموسيقية الجوالة التي تجد في هذا التجمع النابض بالحياة فرصة تنبعث فيها من جديد. لكن أين تلك الفرقة؟ يصعد النظر فيما حوله فلا يصطدم بصره سوى بأناس مثله يتماوجون في هذا المكان. يدور حول نفسه دورة كاملة يمسح فيها ببصره وسمعه آثار ذلك اللحن وتلك الفرقة فلا يجد شيئاً. يغمض عينيه ويترك أذنه تدله على مصدر الصوت.

يغوص في بحر ذكرياته المصطخب محاولاً تذكر أين سمع هذا اللحن من قبل. يلمح طيف باهت لنفسه وهو طفل يلهو مع ابن عمه الذي يكبره بأربعة أعوام في إحدي إجازات الصيف. تراوغه الذكري وتتفلت من ثنايا عقله. يزداد إنصاتاً لذلك اللحن اللذي يقترب تارةً ويبتعد أخرى. يعاود اللحن الرنين في عقله ليتذكر وقعه شيئاً فشيئاً. يتوقع الجزء القادم من اللحن ببطء. يتوقف لحيظة يتجمد فيها الزمن ليصدق توقعه. يبتسم وهو مغمض العينين ويتسارع صدى اللحن في عقله ليتطابق مع اللحن المسموع. تزداد سرعة مشيه مع إيقاع اللحن. يبدأ في الرقص بخطو موقع على استحياء وهو مغمض العينين. يصطدم بمن حوله فيبتسم دون اعتذار أو التفاتة وهو لا يزال مغمضاً عينيه وكأنه ممسك بطرف اللحن برموشه. يقترب الصوت أكثر فأكثر ليبدوا واضحاً جلياً. يتسارع في رقصه المحموم ويدور حول نفسه عدة دورات كدرويش مسته جذبة عليا خفية.

فجأة تندفع الذكرى واضحة جلية من أعماق عقله. تتسارع الكلمات على لسانه وشفتيه.
"كان مرة في ولد صغير ..
صغير ..
صغير ..
بيلعب عالشط في مقدونيااا"***
يتذكر هزة رأسه في غنج وهو يقول "مقدونيااا" حين كان طفلاً يغني تلك الأغنية لابن عمه.
"كل ما يبني بيت صغير ..
صغير ..
صغير ..
تيجي الموجة تهده في ثانيةةة"
تندفع ذكرى ضحكاته وهو طفل يلهو على الشاطئ عند اندفاع الأمواج التي كانت تهدم دوماً قصوره التي بناها من لرمال.
"إتضايق النونو اللي اسمه اسكندر ..
وعيط ..
ودور على حتة تانيةةةةةةة ..
شال الجاروف وراح يدور ..
لقاها..
بناها ..
أجمل ما في الدنيااا"
يسترجع صورة طفولته على الشاطيء وهو ممسك بالدلو البلاستيكي الأحمر والجاروف الأخضر الصغير بداخله.
"إسكندريااااااااااه .. "
يتصاعد اللحن إلى الذروة.
"يااا إسكندرياااااااااااه .. "
يفتح ذراعيه وعينيه ليجد نفسه أمام الفرقة الموسيقية مباشرةً.
"حضنها حنياااا .."
يضم أقرب العازفين إليه
"ومنارها أماااان."
يغنيها بصوت عالً وهو يدور حول نفسه.

تملكته شجون الغربة عند تلك اللحظة وانبعثت  من عينيه دمعة واحدة حملت شوقه إلى سكندريته. أبابة .. وأهٍ من أبابة وطن فاض الشوق إليه من مآقي العيون. وطن قسى أبناؤه على أبناءه فسلبوهم لقمتهم التي ينتزعونها من شظف العيش، وأحالوا معيشتهم ضنكاً. حتي أحلامهم لم يتركوها وسرقوها من عيونهم في وضح النهار. وآهٍ ثم آه من حلم مسروق ترك صاحبه بعدها خاوياً لا مأرب له من عيشه ولا مهرب. وهل جاء به إلى تلك البلاد البعيدة سوى حلم مهزوم، ورغبة بائسة في التشبث بوهج الحياة ولو للحظات قليلة؟

تدفقت كل تلك الخواطر أثناء دورانه حول نفسه وامتزاجه باللحن. يستمر في الدوران حول نفسه ويفتح عينيه فلا يرى سوى خليط من ألوان ملابس البشر اللذين تحلقوا حوله ليشاهدوه ،ولعل بعضهم ظنوه أحد أعضاء ذاك الفريق الموسيقي. ينخفض إيقاع اللحن ببطء. يرفع رأسه نحو السماء وهو يدور دورانه المحموم. يرى خيوط أشعة الشمس المتسربة من بين ثنايا أوراق الأشجار التي تظلل المكان. ليستشعر في اللحظة الأخيرة من اللحن أنه لم يكن حياً من قبل كما في تلك اللحظة.


.. ينظر إلى أعلي حيث الزينات المثلثة المعلقة بين الشرفات .. يزداد الازدحام شيئاً فشيئاً كلما اقترب من برج الساعة القديم ..




----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
(*) أُبَاْبَة: (Nostalgia) داءٌ يصيب الغريب ، وهو شدة حنينه إلى وطنه، وهو مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلي الماضي. أصل الكلمة يرجع إلي اللغة اليونانية إذ تشير إلي الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد.تم وصفها علي انها حالة مرضية أو شكل من اشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة، ثم أصبحت بعد ذلك موضوعا ذا اهمية بالغة في فترة الرومانتيكيه.

(**) سيجيشوارا:  مدينة رومانية بإقليم "ترانسلفانيا" بالقرب من نهر "تارنافا ماري" بوسط رومانيا. تعد هذه المدينة من أعظم و أقدم المدن التراثية القروسطية بأوروبا، و تقديرا لأهميتها التاريخية و التراثية الكبيرة قامت منظمة اليونسكو بضم المدينة الي قائمة أهم مواقع التراث الإنساني العالمي.

(***) الأغنية: أغنية "إسكندرية" للفنان المصري "سمير صبري" http://www.youtube.com/watch?v=xN7ltYdxBco. وقد تم اقتباس لحن الأغنية من أغنية يونانية شهيرة للملحن اليوناني "مانوس هاديداكيس" بعنوان (Never on Sunday) http://www.youtube.com/watch?v=GL-AlNTkEGA، وقد غنتها المطربة اليونانية "ميلينا ميركوري" في فيلم يوناني يحمل نفس الإسم. وحصلت تلك الأغنية في ذلك الفيلم على جائزة الأوسكار لأحسن أغنية أصلية عام 1960.