الجمعة، 28 نوفمبر 2014

العجوز والبحر

العجوز والبحر

لم تبدو قط تلك الليلة وكأنها مختلفة في أي شيء، فهي فقط ليلة باردة طويلة كغيرها من الليالي الباردة الطويلة التي يقضيها في تابوته الخشبي بالقرب من البحر الذي كف عن النظر إليه منذ وقت بعيد. يتسرب الهواء المغرق في البرودة من بين الشقوق الفاصلة لألواح الخشب المكونة لذلك التابوت الواقف - المنعوت باسم "كشك" الحراسة - لتحدث صفيراً ممطوطاً طويلاً يزيد من أثر البرودة المنتهكة لدفء جسده الواهن. يتحرك في عالمه الخشبي المحدود محاولاً سد تلك الشقوق بما تيسر له من وريقات جريدة إعلانية مجانية توزع عليه بين الفينة والأخرى، تلك الوريقات التي كانت تمنحه بعض لحظات من الوقت الضائع فيما لا طائل منه أثناء وقوفه وجلوسه -الذي لا طائل منه أيضاً - في ورديته المسائية دوماً كأفق حياته المسائية أيضاً؛ إلا أن البرد أخذ يزداد في الشدة ويدك حصونه الواهية، والتي حاول أن يقي بها جسده المنهك دون جدوى. لم يشفع له -لدى البرد - ذلك "البول أوفر" الصوفي القديم ذو الوبر الكثيف الذي دبغ بفعل العرق والأوساخ المتراكمة حتي صار كتلة صمغية صماء، والذي يرتديه تحت قميصه ذو القماش الرقيق الأبيض سابقاً، وكذلك السترة الكحلية التي منح إياها في بداية عمله. يحاول تناسي البرد بالاستماع إلى ذلك الراديو العتيق الذي يمنحه بعضاً من الوقت الضائع الأكثر حميمية من ذلك الممنوح عبر وريقات الجريدة الإعلانية، إلا أن التقاط إشارة موجات الراديو تبدو عصية عبر الهوائي القصير المكسور، كما أن الصوت المنبعث من الراديو بين إقبال وإدبار الإشارة وإحجامها عن الاستمرار يختفي بين ثنايا زئير الريح المختلط بهدر الموج المنكسر على صخور الشاطئ القابعة في الظلمة خلفه. يتململ في جلوسه وهو ينفث في يديه ويفركهما محاولاً جلب بعض الدفء الذاتي، ولكن بلا طائل. يحن لكوب من الشاي الأسود الساخن المحلى بصحبة بشرية يفتقدها في منفاه الخشبي هذا، وأني له مثل هذه الصحبة في عمق هذه الليل البهيم البارد؟ يحجم عن فكرة الشاي لأنه لا يرغب في أن يشربه "سادة" دون وجود من يأنس به. "سادة" يقولها لنفسه بصوت عال مستحضراً بعضاً من ألفة حضور الذكريات رغم وحشة تفاصيلها، فتلك الكلمة هي أنسب وأدق وصف لحكايته. تلك الحكاية التي تكررت كثيراً حتى صارت مبتذلة في هذا البلد. كالعادة شاب تخرج بالجامعة ليعمل كـ "فرد أمن" في "كشك" مطمور بفندق شاطئي شهير بالإسكندرية، وهو مولي ظهره للبحر الذي يحجبه مبنى الفندق حتى عن أعين الناظرين السائرين على رصيف "الكورنيش"! يتناهى فجأة إلى سمعه دقات منتظمة على الأحجار ذات الشكل السداسي المنتظم المكونة لرصيف "كورنيش" الإسكندرية الجديد. تقترب الدقات شيئاً فشيئاً، ليتبين في رنينها وقع خشبي. يطل برأسه خارج تابوته ليبصر شبح إنسان محني الظهر يتكئ على عصا خشبية هي مصدر تلك الدقات. يقترب الشبح في خطوات وئيدة وتتبدى ملامحه في بطء لتتشكل وتصير رجلاً عجوزاً يرتدى "بدلة" صيفية قصيرة الأكمام تنتمي لبدل الموظفين منذ ما يربو على نصف قرن، والتي يشيع ارتدائها بين العجائز المتجاوزين لسن التقاعد الذين يقابلهم بكثرة في عربات "الترام" أيام اعتدال الجو وصحوه. يتعجب من ارتداء العجوز لبدلة صيفية في هذا البرد القارص، ويتعجب من وجوده بالأساس في ذلك الوقت بهذا المكان. شعر نحوه بالشفقة فلعله مريض بالنسيان أو اصابه مس طارئ من خرف الشيخوخة. حينما صار العجوز قريباً منه على بعد خطيات ناداه يدعوه لكوب من الشاي. لم يكن يفكر في مساعدة العجوز بقدر ما كان يفكر بأن يساعده العجوز ويمنحه بعض من أنس الحضور الإنساني في غربته بمنفاه الخشبي. رفع العجوز رأسه المحني في بطء ونظر إليه ثم توجه نحوه دون أن ينبس بأية كلمة، ثم جلس على مدخل "الكشك" المرتفع عن الأرض بعض الشيء واضعاً عصاه بين ساقيه المتباعدتين ومسنداً راحتيه على رأسها المعقوفة. أخرج هو "عدة" الشاي المخبأة أسفل ذلك النتوء الخشبي الذي يجلس عليه ثم قام بصب كوبين من الشاي في عجالة ناول العجوز إحداهما وتمسك هو بكلتا يديه بالكوب الأخر بغية امتصاص حرارته ووهجه. استمر الصمت بينهما لا يقطعه سوى رشفات كليهما للشاي ونظرات كل منهما للآخر. انتظر طويلا أن يفتح العجوز فمه مخرجا بعض الكلمات بصوت تخيله واهنا للغاية يليق بعجوز، لكن صمت العجوز الممتزج برشفاته البطيئة الممطوطة المتمهلة لكوب الشاي أبى أن ينتهي. أراد أن يتكلم هو لكن ماذا يقول احتبست الكلمات في حلقه محدثة غصة شديدة الألم والمرارة. بم يخبره؟! وهل من أثر حياته ما يستحق القص والإخبار؟! وهل لحياته من أثر بالأساس؟! كادت خواطره أن تسترسل في حوار داخلي متصل من طرف واحد اعتادت نفسه أن تحادث به نفسها لولا أن باغتهما المطر فجأة بالهطول دون سابق إنذار. لم يبد العجوز تأثرا رغم ابتلال القماش الخفيف لبنطال بدلته وجفاف الجزء العلوي منها. لم يلحظ الحد الجلي المرسوم على سطح القماش بين البلل والجفاف، والذي ما لبث أن تهاوى بفعل انتشار البلل كغيمة تحجب الأفق. لم يعبأ بالدوائر المتسعة المتموجة على سطح الشاي - الذي فقط حرارته - إثر ارتطام قطرات المطر.  فقط ناول كوب الشاي البارد لمضيفه، وقام من مجلسه فجأة دون أن يستند بما يكفي على عصاته، وأخذ يجد في السير مبتعدا عن "الكشك" كأنما يهم باللحاق بموعد تأخر كثيرا. تابعه من مجلسه بنظرات بدت في ظاهرها غير مكترثة، إلا أنه في ثناياها تعلقت بخطوات العجوز المتعجلة نحو الكوبري الشهير المعلق فوق تلك البقعة من بحر الإسكندرية. توقف العجوز أمام سور الكوبري لحظات بدت كالدهر في عين مراقبه، ثم قفز فجأة من فوق السور كأنما اجتذبته قوة هائلة نحو البحر القابع في الظلمة. ارتاع من هول المشهد، وهرع إلى البقعة التي كان يقف العجوز بها منذ لحظات. وقف على حافة السور ونظر إلى البحر للمرة الأولى منذ زمن بعيد. صعد في النظر بحثا عن أثر لهذا العجوز المأفون، وظل يحدق في الظلمة الكثيفة إلى أن تلاشت المرئيات من حوله - بما فيها البحر نفسه - وصارت أفقا من الفراغ المظلم غشى بصره إلى حين. انبلج نور الفجر بغتة وارتد نظره ليبصر بدلة العجوز الصيفية وعصاه ذو الرأس المعقوفة فوق مساحة شاسعة من الرمل الأبيض الذي تتناثر فوقه بعض الصخور بترتيب عابث. جال ببصره في ذاك الأفق الغريب، لكنه لم يجد العجوز.. ولا البحر أيضا!


محمد السنباطي

القاهرة – نوفمبر 2014