الجمعة، 13 يناير 2012

بلا عنوان


الإسكندرية فى الشتاء بعد المطر .. فتاة جميلة فرغت لتوها من الاستحمام بماء بارد منعش.. شوارعها تبدو  كشعر مبلل يضوع  منه عطر مميز ..ملأ صاحبنا رئتيه بذلك العبير الذكى الذى لا مثيل له ..ثم اتجه إلى الكورنيش وهو ينظر إلى الأمواج الثائرة .. بخار الماء يتصاعد مع زفراته .. أخذ يلهو مع هذا البخار كعادته فى هذا الجو البارد .. يضم شفتيه ويزفر الهواء فى بطء ليخرج بخار الماء من فيه واضحاً كالدخان .. تذكر طفولته وأول مرة لاحظ هذا الدخان المنبعث من الأفواه فى الشتاء .. يومها ظن بأحد أصحابه الظنون حين رأى ذاك الدخان المنبعث من أنفاسه .. سأله فى براءة طفل إذا كان يدخن .. أجابه صديقه ضاحكاً بأن هذا الدخان المنبعث من الأفواه هو بخار ماء تكثف بفغل برودة الجو يخرج مع زفير الصدور .. يومها لم يفهم هذا الكلام لكن الموضوع أعجبه .. أن ينفث الدخان من فمه كما يدخن الكبار .. تذكر فجأة تلك العلكة فى هيئة السجائر التى اشتراها أحد أصدقاءه ذات يوم وعندما رأتها معلمتهم بالمدرسة عاقبت صديقه وأخذت تتحدث عن أن هذه مؤامرة اسرائيلية لافساد الأطفال والشباب و كيف أن هذه العلكة تصنع فى اسرائيل وتلقيها الطائرات الإسرائيلية فوق المدارس المصرية لتعود أطفالها على شرب السجائر منذ الصغر! .. وكعادة الطفولة كرهوا هذه العلكة من أعماق قلوبهم وصارت لديهم أحد رموز ذلك الكيان المقيت المسمى إسرائيل .. إلا أن صاحبنا ظل ينتظر الشتاء كل عام ليدخن على طريقته الخاصة .. دائما فى ذهابه وإيابه إلى المدرسة يحرك شفتيه محاولاً رسم أشكالاً وهمية بدخان سجائره الوهمية .. وذات مرة حاول أن يخرج الدخان من أذنيه كما رأى بأحد أفلام الرسوم المتحركة القصيرة التى كان وما زال يشاهدها إلى الأن .. أستفاق من خواطره على رذاذ الأمواج الذى داعب وجهه .. استشعر ذلك البلل اللذيذ الذى يعشق ملمسه .. ينظر إلى الأمواج وقد تحولت إلى رذاذ صاخب .. ينظر إليها وهى تقترب من الصخور ثم تصطدم بها .. أمواج تليها أمواج .. تتحطم على الصخور وتفت فيها فى دورة أزلية .. دورة الحياة خطوب وراء خطوب تتعاقب على المرء تتحطم على إرادته ويحسب واهماً أنه قد انتصر عليها .. إلا أنها تكسر جزءاً يسيراً من روحه لا يلحظه بغروره وتعاليه .. ومع توالى الخطوب يكتشف المرء كم كان واهماً بشأن صلابته .. يصير فجأة هشاً ضعيفاً ثم ينكسر .. فلا يتبقى منه .. صوت الأمواج المتكسرة المكسرة .. لا يدرى هل هو صوت غرور الصخور الواهمة أم صوت استهزاء الأمواج الصابرة .. ينظر إلى بعيد .. إلى حاجز الأمواج المبنى لحماية شواطىء المدينة .. لاحظ تلك الموجة الشاردة من وراء الحاجز .. لا يدرى هلى أنقذها القدر من الموت على الحاجز أم أن القدر كان رحيماً بالحاجز وأشفق عليه من بطش هذه الموجة .. "البحر قالب" .. أخرجته هذه الجملة التى قالها أحد العابرين بجواره من شروده .. نعم البحر قالب على حد تعبير الإسكندرانية .. لكم يعشق هذا البحر القالب بلونه الذى ليس له مثيل .. فلا هو أزرق ولا أخضر .. لون مميز جداً لا يستطيع تسميته فيطلق عليه فى مخيلته لون البحر القالب .. أهم ما فى هذا اللون أنه مختلف عن لون السماء وبشدة .. مما يجعلك عندما تنظر إلى الأفق ترى فصلاً واضحاً بين السماء والبحر .. عالم سماوى منفصل عن عالم بحرى .. يبعث هذا الإنفصال فى لا وعيه شعوراً بالطمأنينة .. هناك نهاية لكل شىء .. لكل كرب نهاية .. وكذلك لكل فرج .. وللحياة نهاية .. الموت .. الخط الفاصل بين البحر والسماء .. بين الحياة بكل أمواجها وتقلباتها .. والسماء حيث الطمأنينة والخلود .. حينما يكون الجو عادياً يتلاشى خط الأفق وتمتزج زرقة البحر بزرقة السماء .. مخلفة فى الأفق منطقة باهتة محيرة .. لا تدرى أهو بحر أم سماء .. هواء أم ماء .. وكلما نظر إليه شعر بالحيرة والتيه .. ما أمقته من شعور .. لذلك لا يستشعر لذة النظر إلى الأفق إلا والبحر "قالب" .. النوارس فى الأفق .. هل تخاف الطيور فى علياءها؟ .. لقد سمع أغنية ذات مرة تقول "حتى الطيور ممكن تخاف من البراح" .. هل هذا صحيح؟ .. يريد أن يطير كما النوارس ليعرف هل سيخاف من "البراح" أم لا؟ .. يتذكر مشهد من رواية قرأها منذ بضعة أيام بعنوان "قصة النورس والقط الذى علمه الطيران" .. فى مشهدها الأخير حين أراد القط أن يعلم النورس كيف يطير صعد به فى ليلة عاصفة فوق أعلى مبنى بالبلدة وتركه يقفز ثم أغمض القط عينيه كى لا يرى نهاية النورس الذى لم يطر فى حياته قط .. إلا أن النورس قد فعلها وطار .. هل إذا صعد فوق أعلى مبنى وقفز سيطير ويحلق؟؟ .. لا يعرف صاحبنا ولن يعرف حتى يفعلها .. ترك الكورنيش بأمواجه وصخوره و بحره "القالب" و أفقه و نوارسه .. أعطى ظهره لكل هذا .. نفض عن ذهنه فكرة أن يطير .. وتوجه بخطوات رتيبة يعبر الطريق.

الإسكندرية - يناير 2012

حنى الطيور ممكن تخاف من البراح

الأحد، 1 يناير 2012

رحمة ونور


السكون يهيمن على المكان .. إنها سطوة الموت .. اتت لتحيل صخب هذا الطريق الملىء بالحوانيت والباعة المتجولين إلى صمت رهيب .. يخترق السائرون وراء النعش هذا الطريق الطويل نحو أقدم مقابر المدينة .. امرأة عجوز تأتى من بعيد .. تحاول اللحاق بالسائرين فى خطوات بطيئة .. تجاهد لتلحق بهم فلا تستطيع .. فجأة يرتفع صوتها بالصراخ "سلملى عليه .. حلفتك بالنبى الغالى تسلملى عليه .. الأرواح بتتلاقى وبتتكلم .. سلملى عليه .. ابنى .. ياسر .. ٢٦ سنة .. سلملى عليه .. كنت دايماً اقوله قلبى متوغوش عليك يا بنى .. وهو يضحك ويقوللى يا مه متخافيش .. لحد ما مات .. ابنى .. ياسر .. ٢٦ سنة .. وابوه لسة عايش .. سلملى عليه .. سلملى عليه" .. نظر صاحبنا إلى هذه العجوز فى شفقة وبستمر فى المسير مع السائرين اللذين لم يعيروا هذه المسكينة انتباههم .. تفقد العجوز الأمل فى اللحاق بهم والسير معهم .. ينقطع صوت صراخها وتبدأ فى اللهاث .. تتعثر خطواتها ثم تتوقف .. تنحنى وهى تحاول جاهدةً أن تتنفس فى بطء .. يستمر المسير وسط تمتمات المشيعين للميت بالرحمة .. وتهانف البكاء المكبوت على الفقيد .. يعبرون بوابة المقابر .. السلام عليكم أنتم السابقون ونحن بكم اللاحقون بإذن الله .. يأخذ الطريق فى الصعود .. شواهد القبور فى كل مكان .. أسماء وتواريخ .. محمد .. حاتم .. أم هاشم .. عرفة .. الحاجة جليلة .. عائلة الحاج محسن رجال .. عائلة الحاجة عزيزة نساء .. ١٩٩٠ .. ١٩٨٧ .. ١٩٧٦ .. ٢٠١٠ .. ١٩٤٥ .. ١٣٠٠هـ .. ١٩٦٠ .. يستمر الصعود .. وسط كل هؤلاء .. رحمهم الله .. كل منهم كان حياة بأفراحها ومآسيها .. أبناء وأعمال وأموال .. حياة بكل ما تحتويه الكلمة من معان .. ولكنهم الأن تراب .. هذه الأرض كلها رفات أناس كانوا هنا يوماً ثم ذهبوا .. "اسعى .. اسعى" .. استفاق صاحبنا من خواطره على هذا الصوت .. نظر وراءه ليجد جنازة أخرى تسير ورائهم فى هذا الطريق الصاعد .. إنه تزاحم الأحياء على دفن موتاهم .. وكان الانسان عجولا .. حتى عندما يدفن أحبائه ويواريهم التراب .. "اسعى .. اسعى" .. يجد فى السير قليلاً .. يحاذر فى مشيه أن يطأ الأرض بكامل ثقله .. ود ساعتها لو كان خفيفاً كى يطير فوق الأرض ولا تطأ قدماه تراب يحسبه رفات أناس ماتوا ودفنوا هنا .. فلا بد أن كل ذرة فى هذا المكان كانت حياة تسير على قدمين فى يوم من الأيام .. لفت نظره أحواض مملوءة بالمياه على حوافها نثرت حبوب من أجل اطعام الطيور .. رحمة ونور .. امعن النظر فى احدى هذه الأحواض الواسعة فوجد فقاقيع دقيقة ترتفع من أعماقها إلى السطح لتنفجر فى رقة محدثة صوتاً دقيقاً رقيقاً .. أحواض الماء فوق رفات الموتى غنية بالحياة .. كائنات دقيقة لا ترى .. تعيش وتتنفس وتتكاثر فوق ركام الموت .. حقاً هى رحمة .. نباتات وعشب أخضر ندى تكسو القبور ..لا بد وأن هذه الحياة ما كانت لتوجد دون الموت .. سبحان من جعل هذه المخلوقات الخضراء الرقيقة تنمو من رفات من فقدناهم وتتغذى على أجساد الأحبة لتحمل جزءاً من أرواحهم .. يخرج الحى من الميت .. يتوقف المسير ويثوب صاحبنا إلى رشده .. ها قد وصلنا للقبر المنشود .. يتوقف عن بعد ويلمح اللحاد وهو يفتح القبر .. ينظر فى وجوه المحيطين به وهى تنضح بالأسى والخوف والرجاء .. أسى المكلومين فى الأخاديد التى حفرتها الدموع على وجوههم .. الخوف البادى فى ارتعاش الشفاه وهى تتمتم بالدعاء بالرحمة إذا صاروا إلى ما صارإليه الفقيد .. والرجاء البادى فى أكف ضراعتهم إلى السماء بالمغفرة والجنة .. ينزل الجسد المسجى بالكفن إلى القبر ثم يهال التراب .. تزداد الأنوف احمراراً فى ظهيرة هذا اليوم البارد .. ثم هبت نسائم لطيفة برائحة عطرة وأشرقت الشمس فجأة من بين السحب القاتمة لتمنح الجمع الدفء والطمأنينة .. نور .. لعل الله تقبل النفس المطمئنة والروح الطيبة .. نظر إلى السماء ليرى عصافير تزقزق فى سعادة فأيقن أنها تزف الروح إلى بارئها .. أو لعلها ملائكة رحمة ونور .. يمر الزمان وينمو العشب فوق القبر حاملاً بين عروقه حياة .. ووسط الخضرة الغضة تتفتح وردة بيضاء حملت نقاوة الروح ورحمة البارىء .. أراد أن يقطفها فهى تحمل أثر الحبيب الراقد بين التراب .. إلا أنه تركها لتنمو وتتشبع من الجسد المسجى تحتها .. لتكون رحمة .. و نور.

.. سبحان من جعل هذه المخلوقات الخضراء الرقيقة تنمو من رفات من فقدناهم وتتغذى على أجساد الأحبة لتحمل جزءاً من أرواحهم ..