الثلاثاء، 28 يوليو 2015

طيف

تطواف أبدي.. هكذا حكمت عليه شوارع كل المدن التي مر بها عبثا في رحلته الطويلة. تطواف وحيد بلا  رفيق درب يؤنس، يبحث فيه عن لحظة يتشبث فيها بوهج الحياة، لتضيء تطوافه الأبدي من المهاد إلى الممات ومن الميلاد إلى الرقاد. ها هو يسير في ذات الطريق في تلك المدينة الهادئة الهانئة التي حط فيها رحاله ظنا بأنها ملاذ فراره الأخير، ويقينا بأنها ليست هي المكان المنشود، فقط طال بها المقام ما لم يطل في غيرها من مدن بلاد الله الواسعة، التي كتب عليه أن يجوبها دوما دون جدوى. تتشكل ملامح الطريق أمامه في بطء، ويكمل هو تفاصيلها في مخيلته. الشارع المرصوف بأحجار البازلت الأسود مستطيلة الشكل المدكوكة في تراص دقيق، الرصيف الواسع رغم ضيقه بالمارة، الحوانيت المصطفة على ذاك الجانب من الرصيف الذي يسير عليه دوما، مداخل البيوت المعتمة، السائرون في صمت بوجوههم المألوفة لديه، كل شيء كما هو على حاله في ديمومة أبدية. وفي نهاية الطريق على الطرف الآخر يرقد ذلك البيانو العتيق ذو الخشب الأبنوسي الأسود صامتا ساكنا، لا أحد يقترب منه أو يمسسه ليعزف عليه، ولم ير قبلا أحدا قد حاول ذلك. لا يعرف سر تلك الوحدة التي يعاني منها البيانو، ولا يعرف السبب الذي جعل مالكوه أن يتركوه هكذا على قارعة الطريق، فقط ود لو يتقدم إليه ويحاول العزف عليه، ترى أكان أحدا سيمنعه من فعل ذلك؟! لم يعرف.. فقط ظلت رغبته مسجونة كما هي كلما عبر ذاك الطريق، وما أكثر ذلك العبور. احتشدت غيوم السماء في أفق تلك البلاد الشمالية الغائمة دوما، ليبدأ المطر في الهطول بأمطار رقراقة في البداية، تندفع هابطة من علها السماوي، لتصطدم بوجهه تاركة أثرا منعشا لطيفا. يشتد المطر ليدفع بعنفوانه الناس إلى الاختباء منه داخل الحوانيت وفي مداخل البيوت، يخلو الطريق من المارة تماما فلا يتبقى سواه. ينظر بعيدا إلى نهاية الطريق على الجانب الآخر حيث يقبع البيانو، يتحدى صمته الأسود المهيب رغبته في الذهاب والعزف عليه، يهم بالتوجه نحوه، ها هي فرصته سانحة كما لم تبد من قبل، يتوقف في مكانه لحيظة تجمد فيها الزمان، يطأطأ برأسه إلى الأسفل حيث تجمعات المياه المتكونة بفعل المطر، يراقب حركة تموجات المياه المتداخلة على سطحها حال اصطدام الأمطار بها، يعبر الطريق في عزم مفتعل، يخوض بقدميه غمار المياه المتراكمة دون أن يعبأ بها، يجد في المسير حتى يجد نفسه أمامه، يتقدم في وجل ليرفع غطاءه الأسود في بطء وترقب، تتبدى المفاتيح أمامه بين بياض ثلجي ناصع وسواد فاحم، يحرك سبابته اليمنى برتابة نحو إحدى المفاتيح البيضاء، يغمض عيناه ويضغط، تنطلق أنة دقيقة خافته امتزج صداها بدوى المطر المتساقط. يبتسم في خفوت، ثم يفتح عينيه ببطء ليبصرها جالسة على كرسي البيانو، تستمر عينه في التحديق بذهول وهي تتجسد أمامه من احتشاد قطرات المطر، رهيفة وشفافة تندفع بأناملها الرقيقة نحو أزرار البيانو، تعاود الضغط على المفتاح الذي لمسه منذ قليلة، ثم تنطلق في عزف لحن بطيء وحزين، يتصاعد النغم ليمتزج بماء المطر المكون لجسدها، ويمنحها ملامح طفلة على أعتاب المراهقة بفستان أبيض، يستمر عزفها ويوغل اللحن في الحزن، يمتزج بطيفها شيئا فشيئا لتتبدل ملامحها إلى شابة جميلة بملامح دقيقة، يستمر عزفها متخطيا الزمان والمكان والمعقول، يتحول اللحن بفعل لمساتها السماوية إلى حزن صاف يتيه فيه النغم المنبعث من البيانو، تتسرب غيمة الحزن نحو قلب الفتاة الشابة لتستحيل امرأة عجوز يتغضن وجهها بحزن نبيل لا قبل لبشر به. يستفيق من ذهوله المشوب بعبق اللحن، ينظر مشدوها نحو الطيف المتجسد أمامه، تدير هي رقبتها نحوه، تهم بأن تقول شيئا له، تنقر النقرة الأخيرة في اللحن، تتسامى إلى أعلى من فوق كرسي البيانو، يحاول أن يمس يدها بأطراف أنامله، تصطدم أصابعه بقطرات المطر المكونة لطيفها، تستمر في تحليقها نحو السماء، لتنبعث منها إشراقة أبدية، فكأنما كان عروجها السماوي إيذانا بانبلاج الغيوم المحتشدة في أفق الحياة. عاد المارة إلى الطريق مرة أخرى، ليصطخب بالحياة التي أوقفها المطر. يظل واقفا أمام البيانو الأسود ذو الغطاء المغلق، يأخذ شهيقا عميقا من الهواء المشبع بعبق المطر واللحن والطيف، يستمر في تطوافه الأبدي، وكأن كل ما كان.. ما كان!

القاهرة

28/7/2015