الخميس، 12 أبريل 2012

فيولينة


هدوء شديد يغلف المكان .. صمت الجميع .. ينظر حوله فى توؤدة .. يخاطبهم بهمسات من عينيه .. يومىء الجميع برأسهم أنهم مستعدون .. يأخذ شهيقاً عميقاً ثم يكتم أنفاسه تحسباً للحظة المرتقبة .. وميض عيناه يبرق بشرارة البدء .. عندئذ تتدفق الموسيقى السماوية من الفيولينة التى يداعبها برقة .. النغم المتدفق فى جموح .. يصعد ويهبط برفق وسلاسة .. ينساب اللحن بداخله شيئاً فشيئاً حتى يمتزج به .. يذوب فيه ليصيرا شيئاً واحدا بديعاً .. يتماوج جسده مع اللحن .. يتطاول جذعه مع اللحن المتصاعد إلى الذروة .. يتمايل مع نسيم الموسيقى كتمايل الشجرة التى صنعت من أخشابها فيولينته .. حنين .. حنين اللحن وحنين خشب الفيولينة إلى الشجرة الأم .. يقولون إن الفيولينة هى التى تختار عازفها .. يتذكر اليوم الذى أمسكت فيه يداه هذه المعجزة لأول مرة .. يتذكر كيف أنه أغمض عينيه ولامس أخشابها وأوتارها وقوسها برقة .. يتذكر كيف وضعها على كتفه الأيسر ثم أسند ذقنه عليها وشعر فجأة بالدفء يغمره .. شعر أنها جزء منه وأنها امتزجت بروحه التى طال اشتياقها إليها منذ قديم الأزل .. يتذكر ابتسامة بائع الفيولين العجوز والتماعة عينية خلف زجاج نظارته ذات الاطار الدائرى وهو يقول له "لقد وجدتك أخيراً، إنها تنتظرك منذ ثمانين عاماً" .. تذكر الحكاية التى حكاها له بائع الفيولين .. اخبره أن جده هو هو صانع تلك الفيولين .. اخبره عن سحرها وتفردها .. اخبره كيف خرج جده من بيته فى ليلة مقمرة من ليال شهر يناير منذ ثمانون عاماً أو يزيد بحثاً عن الشجرة التى سيقتطع من أخشابها ليصنع تلك المعجزة .. ضوء القمر الفضى فى تلك الليلة الباردة اخبر قلبه أنه سيجدها اليوم .. سيجد تلك الشجرة التى ليس لها مثيل .. يتلمس خطواته فى تلك الغابة على غير هدى .. يغمض عينيه أحياناً ليترك قلبه يرشده .. يركض .. يمشى ببطء .. يتعثر .. يزحف .. ينحنى ليتفحص التربة المطمورة تحت صقيع الثلوج فى الشتاء الألمانى البارد .. يتحسسها بأنامله ويفركها .. يهمس لنفسه "لقد اقتربت" .. ينتصب فجأة ليبل اصبعه بريقه ثم يرفعه عالياً ليستشعر اتجاه الرياح، فهى ستدله أيضاً .. يتجمد اصبعه من شدة البرد .. يتجه لاحدى الأشجار ينقر أخشابها ثم يضع أذنه عليها ليستمع الرنين المنبعث من داخلها .. لا ليس هذا هو المطلوب .. يواصل بحثه المحموم .. يلهث من فرط التعب .. يتصاعد بخار الماء من فيه ويتجمد فى الهواء .. يتمدد على الأرض المغطاة بالثلج .. ينظر للقمر ويقول له "حسناً .. أين هى يا سيدى؟" .. يمعن النظر فى وجه القمر .. فجأة يندفع شهاب عبر السماء متجهاً للناحية اليمنى من جسده .. يستدير لينظر فى هذا الاتجاه ليجدها .. تلك الشجرة التى طال اشتياقه إليها والتى سيصنع من أخشابها معجزته التى سيتركها لأحفاده حتى تجد وليفها .. يذهب إليها .. يداعب جزعها برقة .. ينقر عليها ويستمع إلى الرنين المنبعث من جوفها .. يخرج أدواته من جعبته المعلقة على كتفه، ويبدأ عمله فى صبر كى لا تتألم الشجرة وهو يقتطع من رحمها تلك القطعة النابضة بالحياة .. يواصل بائع الفيولين حكايته ويخبره كيف أن جده ترك تلك القطعة فى مكان جاف فى بيته مده عشرين عاماً كى يصير الخشب أكثر حكمة فيخرج من جوفه أعذب الألحان .. عشرون عاماً من الصبر والحب .. عشرون عاماً يتفحص جده تلك القطعة يوماً بعد يوم .. شهراً بعد شهر .. سنة وراء سنة .. ليزداد يقيناً بأنها معجزته وملحمته .. يبدأ فى تشكيل قطعة الخشب .. يقتطع منها ويحفر فيها بصبر وأناة حتى ينتهى من صناعة جسم الفيولينة فى علم كامل ولم يتبق سوى أن يصنع القوس .. ووتر القوس .. "ورحلة البحث عن الوتر شاقة يا بنى" قالها البائع ثم استطرد "فالوتر كما تعلم شعرة من ذيل حصان برى أصيل" .. ثم استكمل حكاية جده الذى خرج باحثاً عن حصان ليس كمثله حصان .. حصان برى جامح .. حر .. فلا شىء أعذب من الصوت الصادر من قوس وتره شعرة ذيل حصان حر .. جال فى طول البلاد وعرضها فى جبالها وسهولها بحثاً عنه .. عن حصان أفنى عمره فى الركض بين رحبة الحرية وبعيداً عن ضيق الأسر .. عن حصان انطلق ولم يعقه شىء .. عن حصان لم يعبأ بوعورة الطريق وزمهرير العواصف وقلة المرعى .. حصان أسطورى سيأخذ شعرة من ذيله ليصنع معجزته التى ستبقى إلى الأبد .. ثم أخيرا وجده .. حصان أبيض كالسحب المعلقة فى سماوات الموسيقى العذبة .. أبيض كشعيرات ذقن الجد البيضاء والشاهدة على عمره الذى أفناه فى صناعة تلك المعجزة .. واكتملت المعجزة بحضور الشعرة البيضاء الحرة ولم يتبق سوى طلاؤها بذلك الطلاء السرى السحرى، والذى انتقل سر صناعته إليه من أبيه عن جده عن جد جده .. سر ذلك الطلاء الذى يغطى مسام الخشب بطريقة خاصة ليخلق هذا الصوت العذب الذى ليس له مثيل من تلك الفيولينة .. صنع الطلاء فى سبع ليال ثلاث منهن فى ضوء القمر المكتمل .. صنعه من الماء والبخور المعتق ذو الرائحة النفاذة ومن أعشاب سحرية لا تجود بها الطبيعة إلا فى أوقات معينة .. ثم أوقد عليها النار أربعة ليال كاملة .. وفى نهاية الأمر أضاف إليها شعيرات من ذقنه البيضاء .. شعيرات تمنحه الخلود فى هذه المعجزة التى صنعها بقلبه وحبه .. فكلما أصدرت هذه الفيولينة صوتاً خرج الصوت حاملاً أثره وعمره وروحه .. نظر إلى معجزته وملحمته بعد أن أكملها وأتم صناعتها .. اغرورقت عيناه بالدموع فهو لن يعرف من الذى ستختاره لتمنحه عذوبتها ورقتها .. يحكى البائع كيف أن جده أحضره ذات يوم وهو صغير واعطاه تلك الفيولينة وأخبره أن يحتفظ بها خمسون عاماً كى تصير الأكمل والأتم قبل أن يبيعها .. وأخبره أيضاً ألا يعرضها على أحد فهى التى ستختار صاحبها ووليفها .. هى ستجذبه إليها بحنينها وصبرها وحكمة عمرها .. تذكر صاحبنا كل هذا وهو يعزف بها فى تلك اللليلة .. يبتسم فهو يمسك بيديه ملحمة مائة عام أو يزيد .. بنسل من ذكرياته ويندفع بوجدانه بين ثنايا اللحن .. يترك نفسه وروحه للذوبان فى النغم .. يشعر أنه خفيف وشفاف .. يرى من خلال جسده الشفاف عبق الموسيقى المعلق بجو الغرفة .. يهبط من سماء النشوة شيئاً فشيئاً .. ينخفض اللحن مؤذناً بقدوم النهاية .. يرفع القوس من على الأوتار .. يبتسم لجمهوره.

.. يترك نفسه وروحه للذوبان فى النغم .. يشعر أنه خفيف وشفاف .. يرى من خلال جسده الشفاف عبق الموسيقى المعلق بجو الغرفة ..