الأحد، 28 أكتوبر 2012

السنجة - رواية لد. أحمد خالد توفيق

السنجة .. السيجة .. السبحة .. السرنجة .. السرجة .. د.أحمد خالد توفيق يفرغ "صديده" من جديد في هذه الرواية.



أحاول تفهم الدوافع التي كانت وراء كتابة د. أحمد لتلك الرواية. هل هي عملية إفراغ الصديد المتراكم لديه -كما يحب أن يصف د. أحمد ذلك "التطهر"- ليتجدد ويصبح أكثر أريحية نفسياً. أم هي محاولة لكتابة رواية من أجل الرواية في حد ذاتها. أم آن هناك سببا آخر خفيا استغلق على أثناء قرائتي للرواية. لقد تفهمت بوضوح دافع د.أحمد للكتابة في روايته السابقة "يوتوبيا" والتي كانت كتابي المقدس في ذروة اكتئابي وأنا بالجامعة، وقد اعتدت من د.أحمد وجود باعث قوي للكتابة، وقد أضناني البحث عنه فلم أجده إلى الآن. أحتاج لأن أفهم هذا الباعث لكي تكتمل الصورة .. احتاج ذلك بشدة!

مقارنة بيوتوبيا نجد أن الأسلوب الروائي قد تطور ونضج بشكل كبير. الأسلوب والشخوص والأحداث المتشابكة العجيبة في منطق مقبول أشبه بتراجيديات الإغريق؛ كل هذا خلق عالم "دحديرة الشناوي" الذي ما أن تلجها لا تستطيع الخروج من ظلماتها برغبتك أو بدونها. ولوج عالم "دحديرة الشناوي" أشبه بالخوض في الوحل -الممزوج بأشياء أخرى!- بأقدام عارية؛ في البداية يكون الأمر مقززاً، ثم ما تلبث أن ترتاح إليه وتسير فيه بأريحية، ثم تستمتع بعد ذلك بالأمر وتغوص بأقدامك أكثر في الوحل لترتاح!

أسلوب الرواية آخاذ ويسلب روحك ذاتها حتى أوشكت على قراءتها كلها في جلسة واحدة -وهذا ما أنصح به وبشدة. النهاية غريبة فعلاً وفاقت كل التوقعات كالعادة فد. أحمد له نهايات يصعب توقعها في قصصه حتى وإن كانت مملة للغاية أحياناً. لن أتحدث عنها بتفصيل أكثر أو ارتباطاتها بالأحداث المتشعبة لأترك لكم حرية تكوين انطباعاتكم عنها.

بقيت نقطة واحدة؛ قبل قرائتي للرواية تحدث العديد عن أن الجنس في الرواية ممجوج وأن د.أحمد قد خرق تابوه الذي وضعه لنفسه في تلك الرواية. اعتقد أن هذا لم يحدث إطلاقاً فما زال د.أحمد خالد توفيق من أرقي من كتب عن الجنس من الأدباء المصريين. هو لم بستخدم حتى أسلوب التلميح في أي شيء فقط عبارة قصيرة مقتضبة كانت تشي بكل شيء، والاسنتاجات والتخيلات متروكة لمدى سقم عقلية القارىء. ما زال الرجل كما قال لم يكتب ما يخجل أن تقرأه ابنته. كما يجدر الإشارة إلى أن عنف الألفاظ والسباب المتوقع من شخوص الرواية في بيئتهم المليئة بالانحرافات من كل جنس ولون نجح -كالعادة- د.أحمد خالد في تجاوزها بسلاسة دون إخلال بالسياق أو إسفاف وابتذال لغوي.

بصفة عامة الرواية ممتعة وأنصح بقرائتها. الرواية نجحت كما أعتقد فنفاذ الطبعة الأولى في غضون أقل من عشرة أيام -وإن كنت لا أعرف عدد نسخ الطبعة بعد- يشي بأن الرواية ناجحة. أضف إلى ذلك أنها كانت منتهكة على الإنترنت في غضون عدة ساعات من طرحها في الأسواق. يبدو أن محبي كتابات الدكتور يتمتعون بنفاذ صبر واضح، فالجميع انتظر الرواية، والجميع حاول شرائها، والجميع حاول قرائتها بأسرع ما يمكن. استمتعت بقرائتها بشدة واعتبرها هدية العيد التي أهديتها لنفسي! .. إلا أنني ما زلت أنتظر رواية أخرى لد. أحمد خالد ربما تكون هي واسطة العقد أو درة التاج.

الأربعاء، 18 يوليو 2012

أُبَاْبَة*


إنها الحياة التي بعثت في "سيجيشوارا"** تلك المدينة المنسية في قلب الريف الروماني. تلك الحياة قصيرة الأمد التي تستمر ثلاثة أيام فقط كل عام هي مدة ذلك الاحتفاء البهيج بالعصور الوسطي. هي الحياة التي أُخذ صاحبنا مشدوها بوهجها المتشبث بتلك الأيام الثلاثة، والتي أفاضت على الناس والموجودات من حوله لتكسبها روحاً جديدة تتجدد بها كل معاني الوصال لهذا الطرف القصي المنسي من البلاد.

يتجول بين الأزقة الضيقة الصاعدة الهابطة في التواءات لا نهاية لها. تختلج قدماه على الطريق المرصوف بأحجار البازلت الأسود التي يربو عمرها على عدة قرون. يستند على الجدران العتيقة بطرقات الجزء القديم من المدينة. ينظر إلى أعلي حيث الزينات المثلثة المعلقة بين الشرفات وعلى مداخل البوابات القديمة ذات الأبواب الحديدية الصدئة. يستمر طوافه بين البيوت القصيرة المكتنزة المغطاة بسقوف مائلة من القرميد المعتق ببياض ثلوج الشتاء وحمرة شمس الصيف. يزداد الازدحام شيئاً فشيئاً كلما اقترب من برج الساعة القديم أهم معالم تلك المدينة الصغيرة. يتفحص بعينيه تلك الأكشاك الصغيرة المصنوعة من أطر معدنية مكسوة بالأقمشة زاهية الألوان المتراصة جنباً إلى جنب على ضفتي الطريق، والتي تضج بمعروضاتها المختلفة من كل صنف ولون في تناسق غير مقصود يزيد المكان حياة فوق حياة.

يتداخل في أذنيه أصوات تصايح الباعة واختلاط الكلمات المنبعثة من الأفواه بألسنة مختلفة، ضجيج الأطفال اللاهين بسيوفهم ودروعهم الخشبية، ثغاء خراف تعد للذبح بمطعم قريب، الموسيقى المنبعثة من إحدى مواكب الأمراء المزعومين لعصور خلت، صليل سيوف معركة وهمية تدور رحاها بين أفراد فريق مسرحي متجول؛ تلك السيمفونية المذهلة من الأصوات بغية اسحضار ذكرى ماضٍ جميل.

غمرته تلك اللحظة النابضة بالحياة حتى ذاب فيها، واندمج في لذة وهج الانبعاث من بعد طول رقاد. يسير بجسده وسط تيار البشر الهادر، وتحلق روحه في براح حيوية المشهد بتفاصيله الدقيقة العميقة التي يحاول تشربها كي لا يفقد جذوة وهج الحياة المتأججة والتي افتقدها منذ زمن بعيد.

في غمرة تلك اللحظة تناهي إلي سمعه وقع لحن موسيقي مميز. يبدأ في إرهاف سمعه يتتبع صدى ذلك اللحن الذي يثير في عقله ذكرى مبهمة لا يستطيع الإمساك بها. يبتاعد صوت اللحن قليلاً إلا أن شيئاً ما يدفعه لأن يقترب منه أكثر. يبحث فيما حوله عن مصدر ذاك الصوت، ويفتش في أعماق عقله عن تلك الذكرى الباهتة المرتبطة بطفولته وبسر ذلك اللحن المنبعث من ثنايا هذا المكان القصي. حتماً تلك الموسيقي مصدرها إحدى الفرق الموسيقية الجوالة التي تجد في هذا التجمع النابض بالحياة فرصة تنبعث فيها من جديد. لكن أين تلك الفرقة؟ يصعد النظر فيما حوله فلا يصطدم بصره سوى بأناس مثله يتماوجون في هذا المكان. يدور حول نفسه دورة كاملة يمسح فيها ببصره وسمعه آثار ذلك اللحن وتلك الفرقة فلا يجد شيئاً. يغمض عينيه ويترك أذنه تدله على مصدر الصوت.

يغوص في بحر ذكرياته المصطخب محاولاً تذكر أين سمع هذا اللحن من قبل. يلمح طيف باهت لنفسه وهو طفل يلهو مع ابن عمه الذي يكبره بأربعة أعوام في إحدي إجازات الصيف. تراوغه الذكري وتتفلت من ثنايا عقله. يزداد إنصاتاً لذلك اللحن اللذي يقترب تارةً ويبتعد أخرى. يعاود اللحن الرنين في عقله ليتذكر وقعه شيئاً فشيئاً. يتوقع الجزء القادم من اللحن ببطء. يتوقف لحيظة يتجمد فيها الزمن ليصدق توقعه. يبتسم وهو مغمض العينين ويتسارع صدى اللحن في عقله ليتطابق مع اللحن المسموع. تزداد سرعة مشيه مع إيقاع اللحن. يبدأ في الرقص بخطو موقع على استحياء وهو مغمض العينين. يصطدم بمن حوله فيبتسم دون اعتذار أو التفاتة وهو لا يزال مغمضاً عينيه وكأنه ممسك بطرف اللحن برموشه. يقترب الصوت أكثر فأكثر ليبدوا واضحاً جلياً. يتسارع في رقصه المحموم ويدور حول نفسه عدة دورات كدرويش مسته جذبة عليا خفية.

فجأة تندفع الذكرى واضحة جلية من أعماق عقله. تتسارع الكلمات على لسانه وشفتيه.
"كان مرة في ولد صغير ..
صغير ..
صغير ..
بيلعب عالشط في مقدونيااا"***
يتذكر هزة رأسه في غنج وهو يقول "مقدونيااا" حين كان طفلاً يغني تلك الأغنية لابن عمه.
"كل ما يبني بيت صغير ..
صغير ..
صغير ..
تيجي الموجة تهده في ثانيةةة"
تندفع ذكرى ضحكاته وهو طفل يلهو على الشاطئ عند اندفاع الأمواج التي كانت تهدم دوماً قصوره التي بناها من لرمال.
"إتضايق النونو اللي اسمه اسكندر ..
وعيط ..
ودور على حتة تانيةةةةةةة ..
شال الجاروف وراح يدور ..
لقاها..
بناها ..
أجمل ما في الدنيااا"
يسترجع صورة طفولته على الشاطيء وهو ممسك بالدلو البلاستيكي الأحمر والجاروف الأخضر الصغير بداخله.
"إسكندريااااااااااه .. "
يتصاعد اللحن إلى الذروة.
"يااا إسكندرياااااااااااه .. "
يفتح ذراعيه وعينيه ليجد نفسه أمام الفرقة الموسيقية مباشرةً.
"حضنها حنياااا .."
يضم أقرب العازفين إليه
"ومنارها أماااان."
يغنيها بصوت عالً وهو يدور حول نفسه.

تملكته شجون الغربة عند تلك اللحظة وانبعثت  من عينيه دمعة واحدة حملت شوقه إلى سكندريته. أبابة .. وأهٍ من أبابة وطن فاض الشوق إليه من مآقي العيون. وطن قسى أبناؤه على أبناءه فسلبوهم لقمتهم التي ينتزعونها من شظف العيش، وأحالوا معيشتهم ضنكاً. حتي أحلامهم لم يتركوها وسرقوها من عيونهم في وضح النهار. وآهٍ ثم آه من حلم مسروق ترك صاحبه بعدها خاوياً لا مأرب له من عيشه ولا مهرب. وهل جاء به إلى تلك البلاد البعيدة سوى حلم مهزوم، ورغبة بائسة في التشبث بوهج الحياة ولو للحظات قليلة؟

تدفقت كل تلك الخواطر أثناء دورانه حول نفسه وامتزاجه باللحن. يستمر في الدوران حول نفسه ويفتح عينيه فلا يرى سوى خليط من ألوان ملابس البشر اللذين تحلقوا حوله ليشاهدوه ،ولعل بعضهم ظنوه أحد أعضاء ذاك الفريق الموسيقي. ينخفض إيقاع اللحن ببطء. يرفع رأسه نحو السماء وهو يدور دورانه المحموم. يرى خيوط أشعة الشمس المتسربة من بين ثنايا أوراق الأشجار التي تظلل المكان. ليستشعر في اللحظة الأخيرة من اللحن أنه لم يكن حياً من قبل كما في تلك اللحظة.


.. ينظر إلى أعلي حيث الزينات المثلثة المعلقة بين الشرفات .. يزداد الازدحام شيئاً فشيئاً كلما اقترب من برج الساعة القديم ..




----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
(*) أُبَاْبَة: (Nostalgia) داءٌ يصيب الغريب ، وهو شدة حنينه إلى وطنه، وهو مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلي الماضي. أصل الكلمة يرجع إلي اللغة اليونانية إذ تشير إلي الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد.تم وصفها علي انها حالة مرضية أو شكل من اشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة، ثم أصبحت بعد ذلك موضوعا ذا اهمية بالغة في فترة الرومانتيكيه.

(**) سيجيشوارا:  مدينة رومانية بإقليم "ترانسلفانيا" بالقرب من نهر "تارنافا ماري" بوسط رومانيا. تعد هذه المدينة من أعظم و أقدم المدن التراثية القروسطية بأوروبا، و تقديرا لأهميتها التاريخية و التراثية الكبيرة قامت منظمة اليونسكو بضم المدينة الي قائمة أهم مواقع التراث الإنساني العالمي.

(***) الأغنية: أغنية "إسكندرية" للفنان المصري "سمير صبري" http://www.youtube.com/watch?v=xN7ltYdxBco. وقد تم اقتباس لحن الأغنية من أغنية يونانية شهيرة للملحن اليوناني "مانوس هاديداكيس" بعنوان (Never on Sunday) http://www.youtube.com/watch?v=GL-AlNTkEGA، وقد غنتها المطربة اليونانية "ميلينا ميركوري" في فيلم يوناني يحمل نفس الإسم. وحصلت تلك الأغنية في ذلك الفيلم على جائزة الأوسكار لأحسن أغنية أصلية عام 1960.


الخميس، 12 أبريل 2012

فيولينة


هدوء شديد يغلف المكان .. صمت الجميع .. ينظر حوله فى توؤدة .. يخاطبهم بهمسات من عينيه .. يومىء الجميع برأسهم أنهم مستعدون .. يأخذ شهيقاً عميقاً ثم يكتم أنفاسه تحسباً للحظة المرتقبة .. وميض عيناه يبرق بشرارة البدء .. عندئذ تتدفق الموسيقى السماوية من الفيولينة التى يداعبها برقة .. النغم المتدفق فى جموح .. يصعد ويهبط برفق وسلاسة .. ينساب اللحن بداخله شيئاً فشيئاً حتى يمتزج به .. يذوب فيه ليصيرا شيئاً واحدا بديعاً .. يتماوج جسده مع اللحن .. يتطاول جذعه مع اللحن المتصاعد إلى الذروة .. يتمايل مع نسيم الموسيقى كتمايل الشجرة التى صنعت من أخشابها فيولينته .. حنين .. حنين اللحن وحنين خشب الفيولينة إلى الشجرة الأم .. يقولون إن الفيولينة هى التى تختار عازفها .. يتذكر اليوم الذى أمسكت فيه يداه هذه المعجزة لأول مرة .. يتذكر كيف أنه أغمض عينيه ولامس أخشابها وأوتارها وقوسها برقة .. يتذكر كيف وضعها على كتفه الأيسر ثم أسند ذقنه عليها وشعر فجأة بالدفء يغمره .. شعر أنها جزء منه وأنها امتزجت بروحه التى طال اشتياقها إليها منذ قديم الأزل .. يتذكر ابتسامة بائع الفيولين العجوز والتماعة عينية خلف زجاج نظارته ذات الاطار الدائرى وهو يقول له "لقد وجدتك أخيراً، إنها تنتظرك منذ ثمانين عاماً" .. تذكر الحكاية التى حكاها له بائع الفيولين .. اخبره أن جده هو هو صانع تلك الفيولين .. اخبره عن سحرها وتفردها .. اخبره كيف خرج جده من بيته فى ليلة مقمرة من ليال شهر يناير منذ ثمانون عاماً أو يزيد بحثاً عن الشجرة التى سيقتطع من أخشابها ليصنع تلك المعجزة .. ضوء القمر الفضى فى تلك الليلة الباردة اخبر قلبه أنه سيجدها اليوم .. سيجد تلك الشجرة التى ليس لها مثيل .. يتلمس خطواته فى تلك الغابة على غير هدى .. يغمض عينيه أحياناً ليترك قلبه يرشده .. يركض .. يمشى ببطء .. يتعثر .. يزحف .. ينحنى ليتفحص التربة المطمورة تحت صقيع الثلوج فى الشتاء الألمانى البارد .. يتحسسها بأنامله ويفركها .. يهمس لنفسه "لقد اقتربت" .. ينتصب فجأة ليبل اصبعه بريقه ثم يرفعه عالياً ليستشعر اتجاه الرياح، فهى ستدله أيضاً .. يتجمد اصبعه من شدة البرد .. يتجه لاحدى الأشجار ينقر أخشابها ثم يضع أذنه عليها ليستمع الرنين المنبعث من داخلها .. لا ليس هذا هو المطلوب .. يواصل بحثه المحموم .. يلهث من فرط التعب .. يتصاعد بخار الماء من فيه ويتجمد فى الهواء .. يتمدد على الأرض المغطاة بالثلج .. ينظر للقمر ويقول له "حسناً .. أين هى يا سيدى؟" .. يمعن النظر فى وجه القمر .. فجأة يندفع شهاب عبر السماء متجهاً للناحية اليمنى من جسده .. يستدير لينظر فى هذا الاتجاه ليجدها .. تلك الشجرة التى طال اشتياقه إليها والتى سيصنع من أخشابها معجزته التى سيتركها لأحفاده حتى تجد وليفها .. يذهب إليها .. يداعب جزعها برقة .. ينقر عليها ويستمع إلى الرنين المنبعث من جوفها .. يخرج أدواته من جعبته المعلقة على كتفه، ويبدأ عمله فى صبر كى لا تتألم الشجرة وهو يقتطع من رحمها تلك القطعة النابضة بالحياة .. يواصل بائع الفيولين حكايته ويخبره كيف أن جده ترك تلك القطعة فى مكان جاف فى بيته مده عشرين عاماً كى يصير الخشب أكثر حكمة فيخرج من جوفه أعذب الألحان .. عشرون عاماً من الصبر والحب .. عشرون عاماً يتفحص جده تلك القطعة يوماً بعد يوم .. شهراً بعد شهر .. سنة وراء سنة .. ليزداد يقيناً بأنها معجزته وملحمته .. يبدأ فى تشكيل قطعة الخشب .. يقتطع منها ويحفر فيها بصبر وأناة حتى ينتهى من صناعة جسم الفيولينة فى علم كامل ولم يتبق سوى أن يصنع القوس .. ووتر القوس .. "ورحلة البحث عن الوتر شاقة يا بنى" قالها البائع ثم استطرد "فالوتر كما تعلم شعرة من ذيل حصان برى أصيل" .. ثم استكمل حكاية جده الذى خرج باحثاً عن حصان ليس كمثله حصان .. حصان برى جامح .. حر .. فلا شىء أعذب من الصوت الصادر من قوس وتره شعرة ذيل حصان حر .. جال فى طول البلاد وعرضها فى جبالها وسهولها بحثاً عنه .. عن حصان أفنى عمره فى الركض بين رحبة الحرية وبعيداً عن ضيق الأسر .. عن حصان انطلق ولم يعقه شىء .. عن حصان لم يعبأ بوعورة الطريق وزمهرير العواصف وقلة المرعى .. حصان أسطورى سيأخذ شعرة من ذيله ليصنع معجزته التى ستبقى إلى الأبد .. ثم أخيرا وجده .. حصان أبيض كالسحب المعلقة فى سماوات الموسيقى العذبة .. أبيض كشعيرات ذقن الجد البيضاء والشاهدة على عمره الذى أفناه فى صناعة تلك المعجزة .. واكتملت المعجزة بحضور الشعرة البيضاء الحرة ولم يتبق سوى طلاؤها بذلك الطلاء السرى السحرى، والذى انتقل سر صناعته إليه من أبيه عن جده عن جد جده .. سر ذلك الطلاء الذى يغطى مسام الخشب بطريقة خاصة ليخلق هذا الصوت العذب الذى ليس له مثيل من تلك الفيولينة .. صنع الطلاء فى سبع ليال ثلاث منهن فى ضوء القمر المكتمل .. صنعه من الماء والبخور المعتق ذو الرائحة النفاذة ومن أعشاب سحرية لا تجود بها الطبيعة إلا فى أوقات معينة .. ثم أوقد عليها النار أربعة ليال كاملة .. وفى نهاية الأمر أضاف إليها شعيرات من ذقنه البيضاء .. شعيرات تمنحه الخلود فى هذه المعجزة التى صنعها بقلبه وحبه .. فكلما أصدرت هذه الفيولينة صوتاً خرج الصوت حاملاً أثره وعمره وروحه .. نظر إلى معجزته وملحمته بعد أن أكملها وأتم صناعتها .. اغرورقت عيناه بالدموع فهو لن يعرف من الذى ستختاره لتمنحه عذوبتها ورقتها .. يحكى البائع كيف أن جده أحضره ذات يوم وهو صغير واعطاه تلك الفيولينة وأخبره أن يحتفظ بها خمسون عاماً كى تصير الأكمل والأتم قبل أن يبيعها .. وأخبره أيضاً ألا يعرضها على أحد فهى التى ستختار صاحبها ووليفها .. هى ستجذبه إليها بحنينها وصبرها وحكمة عمرها .. تذكر صاحبنا كل هذا وهو يعزف بها فى تلك اللليلة .. يبتسم فهو يمسك بيديه ملحمة مائة عام أو يزيد .. بنسل من ذكرياته ويندفع بوجدانه بين ثنايا اللحن .. يترك نفسه وروحه للذوبان فى النغم .. يشعر أنه خفيف وشفاف .. يرى من خلال جسده الشفاف عبق الموسيقى المعلق بجو الغرفة .. يهبط من سماء النشوة شيئاً فشيئاً .. ينخفض اللحن مؤذناً بقدوم النهاية .. يرفع القوس من على الأوتار .. يبتسم لجمهوره.

.. يترك نفسه وروحه للذوبان فى النغم .. يشعر أنه خفيف وشفاف .. يرى من خلال جسده الشفاف عبق الموسيقى المعلق بجو الغرفة ..

الجمعة، 13 يناير 2012

بلا عنوان


الإسكندرية فى الشتاء بعد المطر .. فتاة جميلة فرغت لتوها من الاستحمام بماء بارد منعش.. شوارعها تبدو  كشعر مبلل يضوع  منه عطر مميز ..ملأ صاحبنا رئتيه بذلك العبير الذكى الذى لا مثيل له ..ثم اتجه إلى الكورنيش وهو ينظر إلى الأمواج الثائرة .. بخار الماء يتصاعد مع زفراته .. أخذ يلهو مع هذا البخار كعادته فى هذا الجو البارد .. يضم شفتيه ويزفر الهواء فى بطء ليخرج بخار الماء من فيه واضحاً كالدخان .. تذكر طفولته وأول مرة لاحظ هذا الدخان المنبعث من الأفواه فى الشتاء .. يومها ظن بأحد أصحابه الظنون حين رأى ذاك الدخان المنبعث من أنفاسه .. سأله فى براءة طفل إذا كان يدخن .. أجابه صديقه ضاحكاً بأن هذا الدخان المنبعث من الأفواه هو بخار ماء تكثف بفغل برودة الجو يخرج مع زفير الصدور .. يومها لم يفهم هذا الكلام لكن الموضوع أعجبه .. أن ينفث الدخان من فمه كما يدخن الكبار .. تذكر فجأة تلك العلكة فى هيئة السجائر التى اشتراها أحد أصدقاءه ذات يوم وعندما رأتها معلمتهم بالمدرسة عاقبت صديقه وأخذت تتحدث عن أن هذه مؤامرة اسرائيلية لافساد الأطفال والشباب و كيف أن هذه العلكة تصنع فى اسرائيل وتلقيها الطائرات الإسرائيلية فوق المدارس المصرية لتعود أطفالها على شرب السجائر منذ الصغر! .. وكعادة الطفولة كرهوا هذه العلكة من أعماق قلوبهم وصارت لديهم أحد رموز ذلك الكيان المقيت المسمى إسرائيل .. إلا أن صاحبنا ظل ينتظر الشتاء كل عام ليدخن على طريقته الخاصة .. دائما فى ذهابه وإيابه إلى المدرسة يحرك شفتيه محاولاً رسم أشكالاً وهمية بدخان سجائره الوهمية .. وذات مرة حاول أن يخرج الدخان من أذنيه كما رأى بأحد أفلام الرسوم المتحركة القصيرة التى كان وما زال يشاهدها إلى الأن .. أستفاق من خواطره على رذاذ الأمواج الذى داعب وجهه .. استشعر ذلك البلل اللذيذ الذى يعشق ملمسه .. ينظر إلى الأمواج وقد تحولت إلى رذاذ صاخب .. ينظر إليها وهى تقترب من الصخور ثم تصطدم بها .. أمواج تليها أمواج .. تتحطم على الصخور وتفت فيها فى دورة أزلية .. دورة الحياة خطوب وراء خطوب تتعاقب على المرء تتحطم على إرادته ويحسب واهماً أنه قد انتصر عليها .. إلا أنها تكسر جزءاً يسيراً من روحه لا يلحظه بغروره وتعاليه .. ومع توالى الخطوب يكتشف المرء كم كان واهماً بشأن صلابته .. يصير فجأة هشاً ضعيفاً ثم ينكسر .. فلا يتبقى منه .. صوت الأمواج المتكسرة المكسرة .. لا يدرى هل هو صوت غرور الصخور الواهمة أم صوت استهزاء الأمواج الصابرة .. ينظر إلى بعيد .. إلى حاجز الأمواج المبنى لحماية شواطىء المدينة .. لاحظ تلك الموجة الشاردة من وراء الحاجز .. لا يدرى هلى أنقذها القدر من الموت على الحاجز أم أن القدر كان رحيماً بالحاجز وأشفق عليه من بطش هذه الموجة .. "البحر قالب" .. أخرجته هذه الجملة التى قالها أحد العابرين بجواره من شروده .. نعم البحر قالب على حد تعبير الإسكندرانية .. لكم يعشق هذا البحر القالب بلونه الذى ليس له مثيل .. فلا هو أزرق ولا أخضر .. لون مميز جداً لا يستطيع تسميته فيطلق عليه فى مخيلته لون البحر القالب .. أهم ما فى هذا اللون أنه مختلف عن لون السماء وبشدة .. مما يجعلك عندما تنظر إلى الأفق ترى فصلاً واضحاً بين السماء والبحر .. عالم سماوى منفصل عن عالم بحرى .. يبعث هذا الإنفصال فى لا وعيه شعوراً بالطمأنينة .. هناك نهاية لكل شىء .. لكل كرب نهاية .. وكذلك لكل فرج .. وللحياة نهاية .. الموت .. الخط الفاصل بين البحر والسماء .. بين الحياة بكل أمواجها وتقلباتها .. والسماء حيث الطمأنينة والخلود .. حينما يكون الجو عادياً يتلاشى خط الأفق وتمتزج زرقة البحر بزرقة السماء .. مخلفة فى الأفق منطقة باهتة محيرة .. لا تدرى أهو بحر أم سماء .. هواء أم ماء .. وكلما نظر إليه شعر بالحيرة والتيه .. ما أمقته من شعور .. لذلك لا يستشعر لذة النظر إلى الأفق إلا والبحر "قالب" .. النوارس فى الأفق .. هل تخاف الطيور فى علياءها؟ .. لقد سمع أغنية ذات مرة تقول "حتى الطيور ممكن تخاف من البراح" .. هل هذا صحيح؟ .. يريد أن يطير كما النوارس ليعرف هل سيخاف من "البراح" أم لا؟ .. يتذكر مشهد من رواية قرأها منذ بضعة أيام بعنوان "قصة النورس والقط الذى علمه الطيران" .. فى مشهدها الأخير حين أراد القط أن يعلم النورس كيف يطير صعد به فى ليلة عاصفة فوق أعلى مبنى بالبلدة وتركه يقفز ثم أغمض القط عينيه كى لا يرى نهاية النورس الذى لم يطر فى حياته قط .. إلا أن النورس قد فعلها وطار .. هل إذا صعد فوق أعلى مبنى وقفز سيطير ويحلق؟؟ .. لا يعرف صاحبنا ولن يعرف حتى يفعلها .. ترك الكورنيش بأمواجه وصخوره و بحره "القالب" و أفقه و نوارسه .. أعطى ظهره لكل هذا .. نفض عن ذهنه فكرة أن يطير .. وتوجه بخطوات رتيبة يعبر الطريق.

الإسكندرية - يناير 2012

حنى الطيور ممكن تخاف من البراح

الأحد، 1 يناير 2012

رحمة ونور


السكون يهيمن على المكان .. إنها سطوة الموت .. اتت لتحيل صخب هذا الطريق الملىء بالحوانيت والباعة المتجولين إلى صمت رهيب .. يخترق السائرون وراء النعش هذا الطريق الطويل نحو أقدم مقابر المدينة .. امرأة عجوز تأتى من بعيد .. تحاول اللحاق بالسائرين فى خطوات بطيئة .. تجاهد لتلحق بهم فلا تستطيع .. فجأة يرتفع صوتها بالصراخ "سلملى عليه .. حلفتك بالنبى الغالى تسلملى عليه .. الأرواح بتتلاقى وبتتكلم .. سلملى عليه .. ابنى .. ياسر .. ٢٦ سنة .. سلملى عليه .. كنت دايماً اقوله قلبى متوغوش عليك يا بنى .. وهو يضحك ويقوللى يا مه متخافيش .. لحد ما مات .. ابنى .. ياسر .. ٢٦ سنة .. وابوه لسة عايش .. سلملى عليه .. سلملى عليه" .. نظر صاحبنا إلى هذه العجوز فى شفقة وبستمر فى المسير مع السائرين اللذين لم يعيروا هذه المسكينة انتباههم .. تفقد العجوز الأمل فى اللحاق بهم والسير معهم .. ينقطع صوت صراخها وتبدأ فى اللهاث .. تتعثر خطواتها ثم تتوقف .. تنحنى وهى تحاول جاهدةً أن تتنفس فى بطء .. يستمر المسير وسط تمتمات المشيعين للميت بالرحمة .. وتهانف البكاء المكبوت على الفقيد .. يعبرون بوابة المقابر .. السلام عليكم أنتم السابقون ونحن بكم اللاحقون بإذن الله .. يأخذ الطريق فى الصعود .. شواهد القبور فى كل مكان .. أسماء وتواريخ .. محمد .. حاتم .. أم هاشم .. عرفة .. الحاجة جليلة .. عائلة الحاج محسن رجال .. عائلة الحاجة عزيزة نساء .. ١٩٩٠ .. ١٩٨٧ .. ١٩٧٦ .. ٢٠١٠ .. ١٩٤٥ .. ١٣٠٠هـ .. ١٩٦٠ .. يستمر الصعود .. وسط كل هؤلاء .. رحمهم الله .. كل منهم كان حياة بأفراحها ومآسيها .. أبناء وأعمال وأموال .. حياة بكل ما تحتويه الكلمة من معان .. ولكنهم الأن تراب .. هذه الأرض كلها رفات أناس كانوا هنا يوماً ثم ذهبوا .. "اسعى .. اسعى" .. استفاق صاحبنا من خواطره على هذا الصوت .. نظر وراءه ليجد جنازة أخرى تسير ورائهم فى هذا الطريق الصاعد .. إنه تزاحم الأحياء على دفن موتاهم .. وكان الانسان عجولا .. حتى عندما يدفن أحبائه ويواريهم التراب .. "اسعى .. اسعى" .. يجد فى السير قليلاً .. يحاذر فى مشيه أن يطأ الأرض بكامل ثقله .. ود ساعتها لو كان خفيفاً كى يطير فوق الأرض ولا تطأ قدماه تراب يحسبه رفات أناس ماتوا ودفنوا هنا .. فلا بد أن كل ذرة فى هذا المكان كانت حياة تسير على قدمين فى يوم من الأيام .. لفت نظره أحواض مملوءة بالمياه على حوافها نثرت حبوب من أجل اطعام الطيور .. رحمة ونور .. امعن النظر فى احدى هذه الأحواض الواسعة فوجد فقاقيع دقيقة ترتفع من أعماقها إلى السطح لتنفجر فى رقة محدثة صوتاً دقيقاً رقيقاً .. أحواض الماء فوق رفات الموتى غنية بالحياة .. كائنات دقيقة لا ترى .. تعيش وتتنفس وتتكاثر فوق ركام الموت .. حقاً هى رحمة .. نباتات وعشب أخضر ندى تكسو القبور ..لا بد وأن هذه الحياة ما كانت لتوجد دون الموت .. سبحان من جعل هذه المخلوقات الخضراء الرقيقة تنمو من رفات من فقدناهم وتتغذى على أجساد الأحبة لتحمل جزءاً من أرواحهم .. يخرج الحى من الميت .. يتوقف المسير ويثوب صاحبنا إلى رشده .. ها قد وصلنا للقبر المنشود .. يتوقف عن بعد ويلمح اللحاد وهو يفتح القبر .. ينظر فى وجوه المحيطين به وهى تنضح بالأسى والخوف والرجاء .. أسى المكلومين فى الأخاديد التى حفرتها الدموع على وجوههم .. الخوف البادى فى ارتعاش الشفاه وهى تتمتم بالدعاء بالرحمة إذا صاروا إلى ما صارإليه الفقيد .. والرجاء البادى فى أكف ضراعتهم إلى السماء بالمغفرة والجنة .. ينزل الجسد المسجى بالكفن إلى القبر ثم يهال التراب .. تزداد الأنوف احمراراً فى ظهيرة هذا اليوم البارد .. ثم هبت نسائم لطيفة برائحة عطرة وأشرقت الشمس فجأة من بين السحب القاتمة لتمنح الجمع الدفء والطمأنينة .. نور .. لعل الله تقبل النفس المطمئنة والروح الطيبة .. نظر إلى السماء ليرى عصافير تزقزق فى سعادة فأيقن أنها تزف الروح إلى بارئها .. أو لعلها ملائكة رحمة ونور .. يمر الزمان وينمو العشب فوق القبر حاملاً بين عروقه حياة .. ووسط الخضرة الغضة تتفتح وردة بيضاء حملت نقاوة الروح ورحمة البارىء .. أراد أن يقطفها فهى تحمل أثر الحبيب الراقد بين التراب .. إلا أنه تركها لتنمو وتتشبع من الجسد المسجى تحتها .. لتكون رحمة .. و نور.

.. سبحان من جعل هذه المخلوقات الخضراء الرقيقة تنمو من رفات من فقدناهم وتتغذى على أجساد الأحبة لتحمل جزءاً من أرواحهم ..