الخميس، 28 فبراير 2013

جنوباً وشرقاً – محمد المخزنجي


جنوباً وشرقاً: رحلات ورؤى



عن الكاتب:
محمد المخزنجي ولد بمدينة "المنصورة" المصرية عام 1949م تعلم بمدارسها، والتحق بكلية الطب بجامعتها. سافر إلى أوكرانيا في بعثة دراسية حصل خلالها على درجة الاختصاص العالي في طب النفس والأعصاب من معهد الدراسات العليا للأطباء بمدينة "كييف"، واختصاصي إضافي في الطب البديل بالمعهد ذاته، مارس الطب النفسي في مصر وأوكرانيا، ثم هجر الطب وتفرغ للعمل بالكتابة حين التحق بمجلة "العربي" الكويتية كمحرر علمي، وانضم إلى أسرتها بالكويت، ثم عاد إلى مصر، وعاش فترة في سوريا، وأصبح بعد ذلك مستشار تحرير مجلة "العربي" في القاهرة. وهو الآن كاتب حر له مقال ثابت كل خميس بجريدة "الشروق" المصرية. يعد المخزنجي من أهم كتاب القصص القصيرة في العالم العربي، وقد قال عنه نجيب محفوظ: "إنه موهبة فذة في عالم القصة القصيرة."، كما قال عنه يوسف إدريس "يمكننا أن نكون من قصصه باقة من أجمل القصص العالمية.". حصل على جائزة ساويرس لكبار كتاب القصة القصيرة عام 2005، وترجمت بعض أعماله إلى الألمانية، والروسية، والإنجليزية. صدر للمخزنجي سبعة كتب قصصية، وريبورتاج قصصي عن كارثة تشيرنوبل، وكتابان في الأدب البيئي للأطفال، وكتاب علمي، بجانب كتابه الذي نتحدث عنه "جنوباً وشرقاً".

ملخص الكتاب:
جنوباً .. بعيداً عن موسم الهجرة للشمال، وشرقاً .. بعيداً عن الاغتراب والغربة في الغرب؛ هكذا أراد أن تكون رحلته، وهكذا أراد ان تكون ووجهته. ترحال وتطواف ببلاد الله في الجنوب والشرق، رؤى وتأملات بخلق الله في تلك الجهات. ترحال امتد في عمق المكان ثمان وعشرين رحلة، وامتد في عمر الزمان تسع سنوات. رحلة في عشق الجنوب والشرق الأحب والأقرب إلى قلب صاحب الرحلة، والأكثر دفئاً ورحابة بناسه وخلقه لما تجيش به النفس الهادئة الوادعة  لكاتبنا د.محمد المخزنجي. وكما هي الكتب تضيف أعواماً وحيوات إلى العمر الواحد كذلك السفر. فما بالكم بكتاب عن السفر يطوف بنا القارات الثلاث للعالم القديم جنوبه وشرقه فقط؛ يرتفع بنا أقاصي الجبال، ويهبط بين سهوب الثلج الأشهب والعشب الغض، يمضي في تيه أشجار الغابات ووسط حيواناتها المفعمة بالحياة، ويمر بمدن وقرى البشر عبر شوارعها المرصوفة أو طرقها الترابية بين القصور الفخيمة أو الأكواخ الغارفة في الفقر والجهل والمرض؛ يغوص بين ثنايا أبناء آدم غارقاً حتى أذنيه في عادات وثقافات الشعوب العديدة البعيدة عنا وعن وجداننا، حتى وإن قربت إلينا على رقعة العالم. كتاب يضم ملاحظات المخزنجي الرحالة، مكتوب بأسلوب المخزنجي الأديب؛ ليحمل بين طياته أقاصيص وحكايا وأساطير، رؤى ومشاعر وتأملات، تاريخ وجغرافيا وسياسة في مزيج بديع ندر أن تجده في أي كتاب أخر. فهذا الكتاب لا يمكن تصنيفه تحت عنوان "أدب الرحلات" التقليدي، ولا يجوز لنا أن نعده "قصة أدبية" بمفهومها المعهود؛ فهو يقع في منطقة بين هذه وتلك أطلق عليها الكاتب "القصة الصحفية"؛ ذلك المزج الفريد بين الصحافة والأدب الذي خلق تلك الحالة الإبداعية الخاصة، والتي نجح المخزنجي في إرساء دعائمها بقوة في عالم الصحافة. يضم هذا الكتاب بين دفتيه "القصص الصحفية" للرحلات الاستطلاعية التي أجراها الكاتب أثناء عمله بمجلة "العربي" الكويتية في الفترة بين عامي 1993 و 2001؛ والتي عدت حين نشرها في وقتها طفرة في عالمي الصحافة والأدب العربيين. وقد جمع هذا الكتاب ثمان وعشرين قصة صحفية لثمان وعشرين رحلة في ثلاث وعشرين دولة تمتد حدودها في ثلاث قارات؛ اختار لها المخزنجي ذلك العنوان القصير البسيط "جنوباً وشرقاً" ليحدد الوجهة والاتجاه، ألحقه بعنوان فرعي "رحلات ورؤى" ليصدر الكتاب في طبعة وحيدة فريدة عام 2011.

1- نامبيا
جوهرة أفريقيا المنسية ذات الوجوه العديدة القديمة الجديدة؛ وجوه الأطماع والاستعمار البائدة، ووجوه المساواة ونبذ العنصرية الوافدة. الرحلة إلى تلك البلاد عبر ثلاث قارات إنطلاقاً من الكويت، ومروراً بألمانيا، وانتهاءاً بنامبيا طرحت سؤالاً هاماً عما دفع الألمان إلى ترك شمالهم الخصيب والتوجه إلى جنوبأ واحتلال تلك البقعة في قرون الاستعمار الأبيض الأسود؟ ذلك السؤال الذي يتردد صداه دائماً في رحلات المخزنجي جنوباً وشرقاً مع اختلاف المستعمر الأبيض دوماً. لا بد وأنه ذلك النهم الأوروبي الذي وضع العالم بين ثنائية الاكتشاف والقسوة محولاً خارطة الأرض ومصائر الشعوب إلى كعكة يتنازع على اقتسامها وانتزاع الجزء الأكبر منها؛ ومؤكداً أنه مهما وسعت الأرض فأطماع البشر أوسع. وهذا ما حدث في نامبيا التي يخضع ميناؤها الرئيسي لنفوذ دولة أخرى؛ فميناء "والفز باي" على مياه المحيط الأطلنطي والذي يقع في صدر نامبيا يخضع لنفوذ دولة جنوب أفريقيا تسيطر عليه وتتحكم فيه! وقد انتهى هذا العبث الجغرافي المختلق في 28 أغسطس 1993 -أثناء زيارة المخزنجي لهذا البلد- لتعود "والفز باي" إلى أحضان الوطن الأم.

2- جنوب أفريقيا
رأس العواصف .. رأس الجنوب الأفريقي الذي اكتشفة البرتغاليون صدفة للدوران حول أفريقيا، والذي بواسطته تمكنوا من قطع طريق تجارة البهار والتوابل المارة ببلاد المسلمين فأطلقوا عليه اسم "رأس الرجاء الصالح"!. وعند تلك القمة يلتقي المحيطين الأطلنطي والهندي في رحابة وتسامح، وذلك رغم اصطخاب تصادم الأمواج على الأرض! ذلك التصادم الدامي بين بني الأبيض والأسود؛ إرث الدم الذي ابتلى به أهل تلك البلاد بعد تعاقب الغزوات الكولنيالية عليها منذ القرن الخامس عشر. كانت زيارة المخزنجي إلى تلك البلد في أهم لحظة في تاريخها المعاصر؛ تحديداً في ديسمبر من العام 1992 أثناء المفاوضات بين "نيلسون مانديللا" الذي ما فتيء أن خرج من محبسه وبين "ديكليرك" أخر حاكم أبيض للبلاد والذي أنهي سياسة الفصل العنصري "الأبارتايد" إلى الأبد؛ تلك اللحظة الفارقة التي أصبح رأس الرجاء صالحاً بعدها للجميع؛ سوداً، وبيضاً، وملونين.

3- المغرب
عناق البر والبحر في ذلك البلد العربي الجميل الذي يجهله معظم العرب. ذلك البلد الذي دفع العديد والعديد من أبناء الغرب والشمال إلى إعادة اكتشاف ذواتهم في كنفه وبين جنباته حيث كل شيء ممكن وكل الأشياء في تصالح. المغرب العربي وأهله الطيبون ذوو الوجوه البشوشة واللهجة المميزة. العديد من المشاهد والمراءي التي فتنت المخزنجي في ترحاله من الدار البيضاء إلى الرباط ثم أخيراً إلى طنجة والتي ظل مشدوهاً بها ورغب في أن يكون واحداً من مريديها كمن سبقوه ممن لا حصر لهم. حتي أنه لم يقل لعذوبتها وداعاً -وهذا ما لم يستطعه- فقال إلى لقاء.

4- زيمبابوي
رعد يقصف دون بروق، ومطر يتجه من الأرض إلى السماء، وأقواس قزح لا تغيب أبداً؛ رحلة إستثنائية في المكان والزمان الممتد عمقه مائة وخمسون مليون سنة؛ إنها .. شلالات "موساي-أوا-تونيا" –الدخان الذي يلد الرعد- بلغة أهل البلاد، شلالات "فيكتوريا" بلغة غزاة البلاد. رحلة إلى أحد أكثر المناظر الطبيعية فتنة وسحر تحدث المخزنجي عنها بقلم رقيق رشيق ووصف دقيق يجعلك تستحضر أصوات خرير المياه المتدفقة، وتستشعر ملمس رذاذها البارد، وترى أقواس قزح لا تغيب ولا تنتهي صباحاً، ومساءاً تحت ألق القمر الفضي ليلاً في معجزة ربانية تتكر مرتين فقط كل عام، فلا تملك إلا أن تلهج بلسانك الله. الله. الله.

5- جنوب أفريقيا - مرة أخرى
عود إلى تلك البلاد ذات العواصم الثلاث؛ "بريتوريا" العاصمة السياسية، و"كيب تاون" العاصمة الإدارية، و"بلومفونتين" العاصمة القانونية. عود في رحلة أغرب وأعمق جذوراً تاريخية من الأولى؛ رحلة على عمق 700 متر في باطن الأرض الزرقاء، ومبعدة 1700 مليون عام من الزمان. رحلة إلى ميلاد ومهد أنقى وأصلب مادة عرفها البشر .. الماس. رحلة مدهشة رأي فيها المخزنجي وأرانا كيف تخرج النفائس من بين ثنايا العتمة، وكيف تصبغ أطماع البشر وأحقادهم الصفاء والنقاء بحمرة الدم؛ علنا نتعظ بتواضع الماس المنبعث من العتمة وتصير قلوب البشر بريئة من الظلمة.

6- السنغال
رحلة موجعة مريرة مثقلة بهموم الأفارقة السود، ومعتمة بقسوة وظلم الأوروبيين البيض تمتد في الزمان والمكان عن أخس وأحقر فعلات وويلات وظلمات بني البشر .. العبودية. في تلك الرحلة يصير المخزنجي شخصيتان تفصل بينهما ثلاثة قرون؛ محمد الرحالة يحكي ما رآه في "غورى" السنغالية، ومامادو الزنجي الأسود يحكي كيف صار ماشية بشرية –عبد- تباع وتشتري. ويسير بينا الطريقان متوازيان يحكيان عذابات لا تحتمل ارتكبها أبناء الشمال بإخوانهم من أبناء الجنوب قدروا بستين مليون إنسان في جريمة منظمة استمرت عدة مئات من السنين لم يكفروا عنها إلى الآن. ورغم زعم الغرب انتهاء العبودية ما زلنا نسأل أنفسنا هل انتهت العبودية حقاً؟!

7- الهند
سحر المثلث الذهبي؛ ذهب من تنوع الألوان، والأنغام، والروائح، وأصداء التاريخ، وأصوات العصر. إنها الهند وطن طاغور، وغاندي، وتاج محل، وحدائق المغول، وأكواخ الفقراء، ومعبد الشمس، وقصر الرياح، وشجر التين البنغالي، والأفيال الصاعدة إلى القلعة القرمزية، والأبقار الهاجعة في الشوارع، والقردة المطلة من الشبابيك، والطواويس السارحة في الحدائق، وقصائد العشق المغناة قعوداً، وحلاوة وجوه فقيرات راجستان، ولهيب أطباق التندوري، ونظام الاتصالات الفضائية المتفوق، والطاقة الآتية من المحطات الكهرونووية، والعربات التي تجرها الجمال والثيران، ومرقصي الأفاعي والنسانيس والدببة. إنها الهند بكل تنويعاتها، وثراءها، وسحرها، وتناقضاتها أيضاً.

8- تركيا
بلد القارتين، والإمبراطوريات الثلاث، والحضارات الغائصة في ثنايا كل شبر من أرضها، هي لوحة تؤطرها بحار أربعة، وتكونها وحدات متجاورة من فسيفساء الزمان والمكان. من السهول التي تموج بسنابل القمح، إلى قمم الجبال المغطاة بالثلوج، من ضوضاء مرسى العبارات في إسطنبول، إلى سكينة الناي في موسيقى الدراويش المولوية، من أبنية الوزارات في قمة أنقرة الحديثة، إلى أزقة حي القلعة القديم الحميم. رحلة رأى فيها المخزنجي الكثير، ولم ير فيها الأكثر.

9- الصين
ما الذي يجمع بين سور الصين العظيم في امتداده المثابر، وميدان "تيان آنمين" –السلام السماوي- الذي يسع مليوناً من البشر، واللوحات المرسومة بدقة داخل زجاجات ضيقة الأعناق، وتدفق ملايين الدراجات في شوارع بكين، والرسم بألوان الماء على الحرير، وفلسفة كونفشيوس، وسياسة الباب المفتوح، والسمك بالعسل، والشاي بالياسمين، ورياضة الكونغ فو؟ إنها روح ذلك الشعب تجري في كل هذا لتصنع أنشودة مستمرة عبر الزمان والمكان، والتي بحث عنها المخزنجي في روعة الأثر، ومسعي البشر على الدرب الصينية.

10- الإمارات العربية المتحدة – صير بني ياس
إنها رحلة تمضي على درب طويل أخضر، امتد واقعاً وطيفاً عبر الصحراء والبحر، ثم خلا على ظهر جزيرة يدعو تأملها إلى كل معاني الجمال والحكمة. حكمة الاحتفاء بالحباة الفطرية وسط عالم كاد يفقد هذه الحكمة فأوشك أن يحكم على نفسه بالفناء. ذلك الاحتفاء الذي طمأن طائر الفلامنجو ليعود إلى التكاثر بالمكان لأول مرة بعد سبعين عاماً، والذي جعل طائر البشاروش يحضر صغاره للإقامة معه، والذي أعاد الحياة إلى غابات المنجروف. فسلام يا صير بني ياس .. همس بها المخزنجي إذ غاص الطيف وراء الماء، ولم يتبق غير الموج والحلم.

11- فيتنام
إنه إغواء الرءوس الخضراء الألف، المطلة من صفاء زرقة خليج التنين العائم، الذي جعل المخزنجي يغير خط سيره من الجنوب إلى الشمال ليكون أول عربي معاصر يبحر في فتنة هذا الخليج. الطريق إلى رأس التنين العائم الذي يكتنز ملامح هذا البلد البسيط الساحر، الذي خبأت جماله أدخنة الحروب، وسوء الحظ التاريخي، وعزلة المكان والزمان، وسوء تدبير البشر.

12- سوريا
ويمضي المخزنجي في حمص التي تترامى رحيبة في القلب السوري الرحيب .. من مسرى النسيم في ذرا قلعة الحصن، إلى مرسى القواقل في تدمر؛ ومن مودة القلوب الطيبة في مدينة ابن الوليد، إلى بسمات الزهر في بساتين العاصي؛ ومن خضرة مدارج وادي النضارة، إلى عمق مغارة ملونة عمرها مائة مليون عام .. مائة مليون عام يا حمص، ورحابة الأرض تغوص فيها مرافىء الزمان وتطفو. فهل تكفي من المحب إشارة؟ "يسعد صباحك سورية صبحك حلو".

13- تركيا – مرة أخرى
في البدء كان مؤتمراً دولياً لطب المسافرين في "بودروم"، لكن الطريق إلى هناك بدا مزدحماً بما يستوقف البصر ويحرك الذاكرة، فعوضاً عن الجبال الخضر المحيطة بخلجان بحر إيجه، والقلاع، والمساجد والمساقي، وشوارع المرمر، ثمة لقاءات أتيحت للمخزنجي مع آلاف السنين، في مواطن هوميروس، وهيرودوت، وأهل الكهف، والحيثيين، واليونان، والرومان، والبيزنطيين، والسلاجقة، والعثمانيين، وناس زماننا. رحلة امتدت أياماً لكنها تماست مع آثار أربعين قرناً من المواجهات، حاولت أن تمسك إجابة سؤال التلاقي.

14- كمبوديا
المسارب الخطرة في حقول الألغام التي تمتد من الحدود إلى الحدود، ظلال الأشجار الاستوائية العملاقة، صدمة حفر المقابر الجماعية وأبراج الجماجم، ملحمية آثار "أنكور" المذهلة، بهاء خيوط الحرير الملونة بين أنامل الصبايا الجميلات الفقيرات. إنها كمبوديا.. هبة المطر، وشجن البشر؛ قلب الهند الصينية التي تشبه خارطتها شكل القلب، وهو قلب مترع بالجمال والآلام.

15- ميانمار (بورما)
أبراج من الذهب الخالص في معابد الحفاة، وياقوت حقيقي بلون دم الحمام الشفيف، راهبات بوذيات حليقات الرءوس، ومسلمون يتوضأون من حوض تسبح فيه أسماك ملونة، طعام شبه صيني بتوابل هندية حارة، وعصير جوز الهند الطازج لري العطش. إنها "يانجون" التي مكث العالم قرناً ونصف القرن يسميها كما أسماها الاستعماريون البريطانيون "رانجون"، وهي عاصمة "ميانمار" التي ظللنا –وراء البريطانيين أيضاً- ندعوها "بورما".

16- لاوس
اسمها الأصلي يعني بلد المليون فيل، لكن الأفيال التي كانت وسيلة النقل والمواصلات الأساسية عبر دروبها الجبلية تناقصت، وبرز نهر "الميكونج" الذي يشق وديانها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب كوسيلة نقل ومواصلات بديلة. وهي أفقر وأغرب بلدان منطقة الهند الصينية، وأعجوبة الطبيعة البكر في جنوب شرق آسيا.

17- تركيا – مرة أخيرة
"كابادوكيا" المشتق اسمها من تعبير بالفارسية "المكان الذي تجلب منه الخيول الجيدة".. مآثر البشر والحجر. حين وجد المخزنجي نفسه أمام ستين مليون سنة، في بدايتها ثارت البراكين لتغمر وجه الأرض برمادها وحممها، ومن الثقل الحمم والتهاب سعيرها فوق الأرض والرماد تكون لوح من حجر التوفا البركاني الهش، سمكه يقارب المائة متر واتساعه 22 ألف كيلومتر مربع هي مساحة كابادوكيا. فماذا فعلت ملايين السنين بالحجر، وماذا فعل الإنسان؟!

18- باكستان
"كراتشي" العاصمة الأولى للدولة الباكستانية عند قيامها منذ أكثر من خمسين عاماً، وأكبر المدن، وأهم الموانىء. تقول الأسطورة إنها ولدت من رحم الطوفان، ويقول واقعها إنها لا تزال تصارع الطوفان، طوفان الزحام والمفارقات. إنها "كراتشي".. المرفأ الذي يبحث عن مرفأ.

19- الإمارات العربية المتحدة – مرة أخرى
غزل واضح بين الماء والأرض .. جزر تشرئب محاطة بفيروزية المياه، ومياه توغل في الأرض بألسنتها فتلتمع حول اليابسة الأخوار، وأرض تشف فوقها رقائق المياه فيتألق عناق الرمل والبحر. وما بين رمال الربع الخالي القاحلة، ومياه الخليج الساخنة عالية الملوحة، ثمة ملحمة من 130 مليون شجرة، و23 مليون نخلة. ولكي يحيط المخزنجي ببعض من أطراف هذه الملحمة الخضراء، كان لزاماً عليه أن ينو إليها من الأعالي، من فوق هضبة، ومن قمة جبل، ومن نافذة طائرة محومة. إتها الإمارات العربية المتحدة مرة أخرى، ولكن في هذه المرة تحليق في أفق أخضر.

20- لبنان
شيء ما، كأنه الإغواء، هو ما جذب المخزنجي إلى ما كان يسمى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية "خطوط التماس" أو "الخطوط الفاصلة". كان يحاول استحضار تلك الصور الزائلة من ذلك الجنون البشري، تلك اللعبة الوحشية التي لا يمكن لأحد أبداً أن يتمثلها عبر رؤية بيروت الآن ومعرفة اللبنانيين في شتى الأماكن والأزمنة، هذا البلد الجميل، وهؤلاء البشر الأكثر لطفاً بيننا، هل يعقل أنهم كانوا مادة لجحيم من هنا مر؟!

21- جزر المالديف
من نوافذ الطائرة لم تكن هناك غير زرقة ناعمة تسبح في آفاقها سحب تضيء حوافها الشمس، وفي الأسفل تتناثر الجزر متباعدة عميقة خضراء، تحيطها هالات بيضاء، وتنسرح منها هالات أوسع من اللون الفيروزي، ثم تنبسط حولها زرقة المحيط. أكثر من ألف ومائة جزيرة ساحرة، تتناثر كزمردات وسط المحيط الهندي، يعتبرها السياح جنة الاستجمام في هذا العالم، ويخشى العلماء أن يبتلعها البحر في غضون خمسين سنة، لا أكثر.

22- الهند – مرة أخرى وأخيرة
"مامباي" أم "بومباي"؟ إنها مدينة الزحام والأحلام والبؤس والذهب. حيث اقتحم المخزنجي أبراج الصمت المجوسية حتى آخر أبوابها الممنوعة، وصعد إلى ذرا الحدائق المعلقة، ثم هبط إلى بحيرة "بانجانجا" العكرة "المقدسة"، وقرع الأجراس في معبد "ربة" الثروة والحظ السعيد، وانتهى على صراط داخل البحر ليقرأ الفاتحة عند مقام "حاجي علي" العائم فوق الماء. إنها الهند بكل أعاجيبها وحيلها التي لا تنتهي، ولكن مرة أخرى وأخيرة.

23- نيبال
كانت الدهشة هي عنوان الرؤى في وادي "كتماندو"، حبث المعابد بعدد البيوت، والأساطير وراء كل شيء، والاحتفالات والموسيقى لا يتركان شارعاً ولا ميداناً إلل وملآه بالصخب. لكن عند الصعود إلى ارتفاع ثلاثين ألف قدم للتحديق في إنبهار وذهول بأعلى قمة عند سقف العالم، انقلبت الرؤى، وصار الاندهاش من سابق الدهشة؛ هناك فوق قمة "إيفرست"، التي تسمت بهذا الاسم عسفاً، فهي لدى النيبالين الذين يرونهما من الجنوب "ساجارماتا"، ولدى أهل التبت الذين يطلون عليها من الشمال "شومولونجما".

24- بولندا
لعلها كانت إحدى عرائس بحر البلطيق، خرجت إلى الشاطئ واستلقت، فكان من شعرها بهجة الغابات، ومن نور عينيها ألق الكهرمان، ومن قشور جسمها صفاء الكريستال. على أرضها صدحت موسيقى شوبان، وتوقد ذهن ماري كوري وكوبرنيكوس، وزهت العمارة القوطية وزخارف الباروك. ولكن المدافع كانت عمياء، فلم تر فيها غير موقع عسكري ملائم للاقتناص أو للانطلاق. ومن ثم كان عذابها وكانت حيرتها. إنها بولندا.. عروس البلطيق الحائرة، ترفع سيفاً وتحتمي بدرع في شعلر عاصمتها "وارسو" أو "فارسوفا" كما ينطقها أهلها.

25- روسيا
"موسكو".. كل هذا الجمال، كل هذا العنف أيضاً. رحلة من الميدان الأحمر بدأت على الأقدام استكمل المخزنجي بها رحلته الأولى إلى موسكو التي انطلقت قبلها بعشرة أعوام. وفي طريق المغادرة ضاع في خضرة غابات الصنوبر اللانهائية المحيطة بموسكو حتى كادت أن تفوته الطائرة. وما بين الأحمر والأخض  تقلبت أما ناظريه المأخوذين ألواناً من الجمال والعنف رسمتها أيدي كل الأزمنة الروسية. فكانت بهجة، وكان ألماً. ولم يبق سوى الإنتظار والترقب لمستقبل روسيا، التي كانت وسظل شرقاً، مهما تطلعت إلى الغرب.

26- البوسنة
مزهرية من نحاس طلقات الموت. زهور على قبور. حسان يخطرن جريحات على حواف الجرح. مآذن مقصوفة يتعالى منها صوت الأذان. نهر يخرج فواراً من عتمة قلب جبل أخضر. بيوت بيضاء وردية السقوف في مروج ملغومة. حياة تستعيد أنفاسها من عبق وعود الربيع. لكن الذاكرة لا تسقط الألم العظيم. إنها "سراييفو" عاصمة البوسنة والهرسك، مدينة إنكشاف الربع الأخير من القرن العشرين.

27- ألبانيا
عبر سماء البحر الأدرياتيكي، دهش المخزنجي –في طائرته- من الجبال الخضراء، والأنهر والبحيرات الصغيرة بين الجبال، ثم لم تكف الأرض الألبانية بعد ذلك عن الاستمرار في إدهاشه. ألبانيا.. من يعيدها من الشتات؟ "إن الجبال تضيع أبناءها" هكذا يقول الألبان الذي يقترب عدد مشتتيهم في بقاع الدنيا من عددهم داخل البلاد بسبب قرون القهر والعزلة.. خمسمائة وخمسون عاماً من العزلة! إنها ألبانيا ذلك الكيان الصغير البديع الهش، الذي يستأهل الرأفة والرفق.

28- ألمانيا
في المنزل رقم 33 بشارع بيتهوفن، ناصية وست إند، بمدينة "فرانكفورت"؛ ظهروا عابرين القرون والمسافات، تجمعوا بغرفة مليئة بالكتب حول عالم مسلم ألماني الإقامة اسمه "فؤاد سيزكن"، ثم هبطوا مع العاالم ومساعده مازن إلى قبو المنزل، انضمت إليهم مجموعة صغيرة من المهندسين والأسطوات الألمان المهرة، وهناك خلع الأسلاف العظام عمائمهم، وشمروا القفاطين عن سواعدهم، وراحوا –فيما كان العالم يقرأ من كتبهم القديمة بصوت مسموع- يقودون المهندسين والأسطوات الألمان لإنجاز معجزة. ففي هذا المكان البعيد بألماني عاد أسلافنا العظام حقاً إلى الحياة!

نشر على موقع كتابنا

ليست هناك تعليقات: