الثلاثاء، 26 فبراير 2013

سَاْرَّهْ


                                                          سَاْرَّهْ


لا يعرف ما الذي دفعه إلى صعود التل عصر ذلك اليوم. فها هوللمرة الأولى - يغادر مدينته الصغيرة بأزقتها الموحلة وطرقاتها الضيقة التي حوصرت فيها كافة أطوار حياته القصيرة، ويتجه صوب التل المعشوشب القائم ورائها منذ بداية الزمان. ها هو يجدّ في خطواته الصاعدة التي يجدها بطيئة مثاقلة؛ فهي لم تعتد الصعود أبداً طيلة حياتها في تلك المدينة التي غفل عنها الزمن، وغفل عنها أهل المدن الأخرى والبلاد البعيدة السعيدة.

يستمر في صعوده البطيء فوق العشب الطري بقدميه الحافيتين الجافيتين حتي يبلغ بقعة مستوية من الأرض ممتلئة بذلك العشب الأخضر القصير ثلاثي الأوراق، وبعض الزهور البرية البيضاء الصغيرة المتناثرة هنا وهناك. يلقي بنفسه على تلك البقعة علّه يستريح من عناء الصعود. يمتزج لهاث أنفاسه المتقطعة بصوت أفكاره المتهدج وهو يخافت نفسه بما تنوء به حياته مما لا يرغب فيه، وسواه الذي يبحث عنه لكنه لم يجده. يظل على ذلك الحال بين رقود وجلوس مضطرب مضطرم محدقاً بمدينته المبسوطة أمامه تحت ذلك التل.

"عفواً.. أنت تجلس قي بقعة أحلامي!"
قيلت بصوت أنثوي رقيق شق غلاف السكون الكائن، وجعله ينتفض فزعاً باحثاً عن مصدره. فإذا هو يبصرها؛ وكأنما هي زهرة تفتحت وسط خضرة العشب البهيجة حال ترقرق قطر الندى صبيحة يوم ربيعي جميل.

"أنت تجلس في مكان أحلامي الذي أحلم فيه."

يزداد وجومه لدي سماع قولها العصي على عقله المدفون تحت التراب المتراكم منذ وقت طويل، فعاجلها بالسؤال "وما الأحلام؟"

بوغتت بالسؤال الذي بدا غريباً على مسامعها، فهي لم تعتقد يوماً أن يكون هناك شخصاً لا يعرف الأحلام، فالحلم والحياة -كما تراهما- متلازمان ووجود كل منهما ضروري للآخر، فلا معني للحياة بغير حلم يسعى المرء لتحقيقه.

أجابته قائلة  "الأحلام هي أغلى ما يمتلكه الإنسان، وما يخشى عليه من الضياع، وما يريده كما ينبغي أن تكون الإرادة الحقة، وهي ما تستحق أن نترك بلادنا وأهلينا وأن نرتحل في البلاد بحثاً عنها، وهل نصل إلى أحلامنا دون ترحال؟!"

تعلق بكلماتها مشدوهاً راغباً في سماع المزيد فقال لها "أنت تتحدثين بكلمات لم أعتد سماعها من قبل، أحب أن أسمع منك أكثر عن تلك الأحلام، وأود مشاركتك في هذا المكان الذي تحلمين فيه."

لم تعتد هي مشاركة الغرباء لأحلامها، لكنها لم تكن لتترك قط رجلاً لا يعرف الأحلام دون أن تمد إليه يد العون وتنتشله من غياهب ظلمات بحر الواقع المخالفه رياحه سبل السفن دوماً. فجلست بجواره على بقعة أحلامها في رفق؛ ثم نظرت نحو المدينة الماثلة أمامهما ببيوتها القصيرة التي ترغم قاطنيها على الانحناء دوماً، وطرقاتها المكتنزة رغم فيضها بالبؤس والقذارة على سالكيها.

تطلع إليها قائلاً وهو يبتسم للمرة الأولى منذ وقت بعيد "كيف تحلمين في هذا المكان؟"

قالت "عندما آتي هنا أتطلع بالنظر إلى عالمي كله، أبحث بعيني عن بيتي، أحاول التفكير في حياتي منذ أن ولدت، واسترجع الذكريات كلها، ثم أنظر إلى ذلك الطريق الذي يخرج من المدينة متجهاً صوب المدن الأخرى، وأتخيل نفسي سائرة فيه، وأحاول تخيل بلاد بعيدة سعيدة وأشياء جميلة لا أدري كنهها، فقط هي تشعرني بالسعادة وأنني راضية، أعتقد أنها أحلامي التي تحققت في ذلك المكان البعيد، ولا أدري بعدها إلام يذهب الطريق، وأين سينتهي المسير، فما زالت أرض أحلامي التي أتخيلها لم أطأها بقدمي بعد. إلا أنني دوماً أخشي أن هذا الطريق الذي يخرج من المدينة يعود إليها مرة أخرى مباشرة، دون المرور بمحطات أحلام الحب أو السعادة أو الرضا، لحظتها فقط سيصير العمر تيهاً، وسأدرك ضياع الحياة!"

أوجمت قليلاً ثم قالت "وأنت.. ماذا عنك؟!"

أجابها وهو يطأطئ رأسه خشيه أن تلتقي عيناها بعينيه المهزومتين "أنا رجل لا يعرف الأحلام، فأنى له أن يحلم وأن يمتلك حلماً؟!"

اغرورقت عيناه بالدموع دون أن يشعر. انهار السد أو ما يحسب أنه سد أمام سيل ذكرياته المهزومة دوماً. تتسع هوة الصمت فيما بينهما حتى تكاد تبتلع المكان بما فيه. جن الليل وأرخي سدوله وهو على هذه الحالة. اتضجع على ظهره فوق تلك الكائنات الخضراء الرقيقة. استشعر أوراق تلك النباتات الضئيلة وهي تمس شعره برقة. شبك يديه ووضعهما خلف رأسه، ثم اغمض عينيه واستمع حفيف أوراق الشجر المتناثر فوق التلة الخضراء، ثم أخذ شهيقاً عميقاً من نسيم الليل البارد قليلاً عله يغسل به حيرة روحه.

اتضجعت هي بجواره على العشب في هدوء خشية قطع خلوته الصامتة، فابتهج العشب برقة قدها الممدود عليه، وحملها فوقه كأنها سحابة شفيفة ذات غلالة رقيقة بيضاء.

يفتح هو عينيه على اتساعهما محدقاً في سماء تلك الليلة التي أشرق قمرها المتبدي في تمامه. تمر سحابة رقيقة أمام القمر المكتمل. تحجب جزءاً من شعاعه الفضى وتجعله باهتاً. يشرد بصره فى سماء الليل. ترحل السحابة عن السماء فى صمت وهدوء. لا يشعر هو برحيلها، بل نسي وجودها من الأساس. يتأمل نجوم السماء الصافية التي تزداد تألقاً والتماعاً كأنما تصحو من سبات لتلبي ذلك النداء الخفى الذى عبر الأزمان والأكوان ليصل فى ميعاده تلك الليلة. سبات النجوم العميق الذي استغرق ألاف السنين بحساب عمره الضائع. إلا أنها أفاقت الليلة، لتمس في قلبه وتراً بث فيه النبض من بعد طول رقاد في عتمة السكون.

"لقد كنت أحلم فيما مضي!"قالها فجأة.

ثم استرسل "لم أعد أذكر منذ متي؟! فقد ماتت أحلامي منذ وقت بعيد. كل ما أذكره شاردة تلوح في أفق ذكريات الطفولة اللاهية عندما كنت أنام كل ليلة ملتحفاً السماء. إنها السماء بنجومها اللامعة، هي مرتع أحلامي المنسية. لطالما شدتني تلك السماء بالتحديق فيها، ومحاولة سبر أغوارها، وبلوغ نهايتها اللا نهائية. هذا ما كنت أريده لأحلامي أن تكون عليه؛ لا نهائية، بلا سقف، ولا حدود لها، سرمدية كهذا الكون الفسيح."

يسكت قليلاً ثم يشير بإحدي يديه إلى النجوم قائلاً "وهذه النجوم اللامعة البعيدةكانت - هي أحلامي ذاتها. تلك النجمة الصغيرة ذات الضوء المتردد الخافتكانت - هي ذكريات الطفولة الحلوة؛ وتلك النجمة المجاورة الأكثر لمعاناًكانت - هي العلم الذي طالما حلمت بالإبحار فيه؛ وتلك النجوم المتراصة وراء بعضها في خط متعرجكانت - هي تطوافي حول العالم بكل المدن الأخرى والبلاد البعيدة السعيدة برحلة البحث عما لا أدريه ولا أعلمه، ربما الحقيقة وربما الحب وربما السعادة وربما الرضا، وربما سر آخر لم يعلمه أحد من قبل، أو علمه الخاصة اللذين ارتحلوا في البلاد بحثاً عنه؛ أما تلك النجمة الكبيرة ذات الضوء الساطعكانت - هي إمرآتي الجميلة التي سألقاها يوماً ما، لتكتمل بها الحياة ويستمر المسير؛ وتبقى تلك النجمة البعيدة، أبعد النجوم وأكثرها لمعاناً، والتيكانتتعدني بالمزيد والمزيد، فأنا لم أكن أعرف ما ورائها، إلا أنني كنت أثق تمام الثقة أنه عند الوصول إليها سأجد آفاقاً أرحب وسماوات جديدة أحلم فيها كما أشاء!"

سكت للحظة وأرجع يده وراء رأسه مرة أخرى ثم أكمل "لكنني في أحايين كثيرة كنت أنظر إلى السماء فأجدها ليست سمائي، بل سماء أخرى لم تعد كما كانت تلك السماء التى تعد بالكثير. لقد صارت بلا نجوم، وبلا أحلام. فلم أعرف وقتها ماذا جرى للسماء؟ أو ماذا جرى لي؟ من الذى تغير فينا؟ هل تغيرت السماء؟! هل تغيرت تلك اللوحة السرمدية فجأة؟! أم أنا الذى تغيرت قبل الأوان؟! لم أعرف الإجابة وقتها؛ وظل الشىء الأكيد أن السماء لم تعد كما كانت!"

أمال رأسه ناظراً إليها ليرى ردة فعلها على ما قاله. فوجدها تنظر إليه في تحنان ثم قالت "وماذا حدث بعد ذلك؟"

عاد إلى الشرود في الأفق، ثم أكمل حكايته "وظلت السماء دون أن تعود كما كانت، حتى مسني اليأس، وشاخت روحى، وصار البؤس رفيقي. وأستفقت فجأة لأجد أن عهد أحلام الطفولة قد أنقضى وولى بغير رجعة، وأنه ينبغي علي أن أكون كالرجال الموجودين بمدينتنا. يومها قررت أن أقتل أحلامي وأتخلى عنها، بل وأنسى وجودها من الأساس؛ لأعتاش فقط بلقيمات يقمن صلبي، كما يعتاش الرجال في تلك المدينة، واللذين لا يعرفون الأحلام أو عبث الطفولة كما يسمونها هم. ببساطة شديدة قتلت أحلامي كي يتم لي اكتمال رجولتهم، وأن أصير مثلهم."

نظرت إليه ومبادي الدمع تترقرق في مقلتيها، ثم أردفت "وهل كان الأمر بهذه البساطة؟ قتلت أحلامك ونسيتها هكذا!"

أجابها وهو يتحاشى النظر إليها "في الأيام الأولى كان الأمر عصياً، وكنت استرق النظر إلى السماء ليلاً أثناء هجوعي. لكنني وبمرور الوقت تعلمت منهم أن أمشي منكس الرأس لا أرى سوى التراب، حتى صار الأمر عادياً. ولم أنظر إلى سماء قط منذ ذلك الحين إلى الليلة!"

سكت هنيهة حملت في طياتها عذابات من ضاعت أعمارهم سدى وصارت حيواتاهم تراب. ثم نظر إليها وقال "ما رأيك في تلك الحكاية.. حكاية من باع أحلامه وأشتري بثمنها بؤساً مقيماً، وحياة موءودة، ونفس شائهة باهتة الملامح كمثلها من نفوس السراب؟!"

نظرت إليه بدورها. ثم قالت "أتعرف، في حكايتك تلك نسيت شيئاً مهماً.. ماذ عن القمر؟"
وأشارت بيدها بحركة مسرحية نحو القمر الفضي المتبدي في كامل تمامه ليزيد من رونق ذلك الليل البهي، ويرسل شعاعه الفضي السحري إلي تلك البقعة التي امتزجت فيها الأحلام بخضرة العشب وبياض الزهور.

ثم أكملت "ألا تعرف أن القمر يسطع كاملاً مكملاً مرة واحدة فقط في الشهر. وذلك على الرغم من أنه يظل يصول ويجول في السماوات طوال الشهر، غير مكتمل في كثير من الأحايين، ومظلم تماماً في أحايين أخرى؛ إلا أن إشراقته الوحيدة تلك تغمر آفاق السماء، وتنير حلكة الليالي الأشد سواداً وقتامة."

ابتسمت في جذل ثم واصلت حديث قمرها "وهكذا هي الأحلام؛ تحسبها خافية بين ثنايا العتمة، إلا أنها في حقيقة الأمر تنمو وتترعرع في بطء شديد حتي تكتمل شيئاً فشيئاً وتصير تامة كاملة. ساعتها فقط ستخرج إلى النور، بل ستصير هي النور ذاته؛ وستضيء لك سماواتك كلها ما اتقضى منها، وما هو آت؛ وستبصر لحظتها كم كان الطريق طويل وشاق، وكيف خانتك قدماك مع طول المسير، وكيف أظلمت عيناك ولم تعد تبصر الحلم، وكيف تاه عقلك وزاغ عن معنى الوجود الكائن في تحقيق الحلم، وكيف ظننت أنك قد قتلت الحلم ولكنك فقط غيبته عن الحياة بضع لحظات مهما طالت؛ وستدرك ساعتها أن كل هذا لم يكن إلا جزءاً من الطريق ولكنه الأشد إظلاماً وقتامة وعتامة فيه."

وكأنما كانت كلماتها تلك هي طوق النجاة الذي انتشله من عتمة بحور الظلمات إلى نور سماوات أحلامه الضائعة. فأخذ يستعيد الكلمات في عينيها، ليرى في صفاءهما القمر الذي تحدثت عنه وهو يدور في فلكه حتي ينبعث من العتمه تاماً دون نقصان ينير الكون بآسره ببريق عينيها.

استمر في تحديقه مقطوع الأنفاس مبهوراً بالحقيقة التي غمرت روحه فجأة لتمطرها بالأمل مخلفة ورائها أقواس قزح من عالم آخر، لا بد وأنه حيث البلاد البعيدة السعيدة. وتبدى له الطريق الخارج من مدينته كما قالت هي طريق الترحال نحو الأحلام، فلن يبلغ أحداً حلمه دون ترحال.

أشار بيده نحو الطريق وقال "لقد أبصرت الآن البداية، ولكن الطريق إلى الحلم لا ينبغي أن يسير الناس فيه فرادى، هلا تأتين معي ونمر بمحطات أحلام الحب والسعادة والرضا سوياً؟!"

لم تجبه، ولكنها أطلقت العنان لقدميها نزولاً من على تل الخضرة والزهور والأحلام نحو الطريق. سبقته بخفتها حتى كادت أن تطير من فرط رقة وقع قدميها على العشب الأخضر، حتى أن سيقان تلك الأعشاب لم تنثن إثر مسيرها عليه بل  ترعرعت وانتشت بتلك الملامسة العابرة الرقيقة كخفة نسائم ليلة صيفية حالمة.

وعند السفح توقفت. ومدت يدها إليه ليتلقفها هو. سارا معاً في الطريق المعبد بضوء القمر، يغالبان الريح التي تهب بعنفوان ناحية المدينة. نظر إليها متجاهلاً الريح قائلاً "ما أسمك يا رفيقة الدرب؟"

قالت "سَاْرَّهْ."


محمد السنباطي
الإسكندرية - فبراير 2013

"ألا تعرف أن القمر يسطع كاملاً مكملاً مرة واحدة فقط في الشهر. وذلك على الرغم من أنه يظل يصول ويجول في السماوات طوال الشهر، غير مكتمل في كثير من الأحايين، ومظلم تماماً في أحايين أخرى؛ إلا أن إشراقته الوحيدة تلك تغمر آفاق السماء، وتنير حلكة الليالي الأشد سواداً وقتامة."

ليست هناك تعليقات: