الأحد، 1 يناير 2012

رحمة ونور


السكون يهيمن على المكان .. إنها سطوة الموت .. اتت لتحيل صخب هذا الطريق الملىء بالحوانيت والباعة المتجولين إلى صمت رهيب .. يخترق السائرون وراء النعش هذا الطريق الطويل نحو أقدم مقابر المدينة .. امرأة عجوز تأتى من بعيد .. تحاول اللحاق بالسائرين فى خطوات بطيئة .. تجاهد لتلحق بهم فلا تستطيع .. فجأة يرتفع صوتها بالصراخ "سلملى عليه .. حلفتك بالنبى الغالى تسلملى عليه .. الأرواح بتتلاقى وبتتكلم .. سلملى عليه .. ابنى .. ياسر .. ٢٦ سنة .. سلملى عليه .. كنت دايماً اقوله قلبى متوغوش عليك يا بنى .. وهو يضحك ويقوللى يا مه متخافيش .. لحد ما مات .. ابنى .. ياسر .. ٢٦ سنة .. وابوه لسة عايش .. سلملى عليه .. سلملى عليه" .. نظر صاحبنا إلى هذه العجوز فى شفقة وبستمر فى المسير مع السائرين اللذين لم يعيروا هذه المسكينة انتباههم .. تفقد العجوز الأمل فى اللحاق بهم والسير معهم .. ينقطع صوت صراخها وتبدأ فى اللهاث .. تتعثر خطواتها ثم تتوقف .. تنحنى وهى تحاول جاهدةً أن تتنفس فى بطء .. يستمر المسير وسط تمتمات المشيعين للميت بالرحمة .. وتهانف البكاء المكبوت على الفقيد .. يعبرون بوابة المقابر .. السلام عليكم أنتم السابقون ونحن بكم اللاحقون بإذن الله .. يأخذ الطريق فى الصعود .. شواهد القبور فى كل مكان .. أسماء وتواريخ .. محمد .. حاتم .. أم هاشم .. عرفة .. الحاجة جليلة .. عائلة الحاج محسن رجال .. عائلة الحاجة عزيزة نساء .. ١٩٩٠ .. ١٩٨٧ .. ١٩٧٦ .. ٢٠١٠ .. ١٩٤٥ .. ١٣٠٠هـ .. ١٩٦٠ .. يستمر الصعود .. وسط كل هؤلاء .. رحمهم الله .. كل منهم كان حياة بأفراحها ومآسيها .. أبناء وأعمال وأموال .. حياة بكل ما تحتويه الكلمة من معان .. ولكنهم الأن تراب .. هذه الأرض كلها رفات أناس كانوا هنا يوماً ثم ذهبوا .. "اسعى .. اسعى" .. استفاق صاحبنا من خواطره على هذا الصوت .. نظر وراءه ليجد جنازة أخرى تسير ورائهم فى هذا الطريق الصاعد .. إنه تزاحم الأحياء على دفن موتاهم .. وكان الانسان عجولا .. حتى عندما يدفن أحبائه ويواريهم التراب .. "اسعى .. اسعى" .. يجد فى السير قليلاً .. يحاذر فى مشيه أن يطأ الأرض بكامل ثقله .. ود ساعتها لو كان خفيفاً كى يطير فوق الأرض ولا تطأ قدماه تراب يحسبه رفات أناس ماتوا ودفنوا هنا .. فلا بد أن كل ذرة فى هذا المكان كانت حياة تسير على قدمين فى يوم من الأيام .. لفت نظره أحواض مملوءة بالمياه على حوافها نثرت حبوب من أجل اطعام الطيور .. رحمة ونور .. امعن النظر فى احدى هذه الأحواض الواسعة فوجد فقاقيع دقيقة ترتفع من أعماقها إلى السطح لتنفجر فى رقة محدثة صوتاً دقيقاً رقيقاً .. أحواض الماء فوق رفات الموتى غنية بالحياة .. كائنات دقيقة لا ترى .. تعيش وتتنفس وتتكاثر فوق ركام الموت .. حقاً هى رحمة .. نباتات وعشب أخضر ندى تكسو القبور ..لا بد وأن هذه الحياة ما كانت لتوجد دون الموت .. سبحان من جعل هذه المخلوقات الخضراء الرقيقة تنمو من رفات من فقدناهم وتتغذى على أجساد الأحبة لتحمل جزءاً من أرواحهم .. يخرج الحى من الميت .. يتوقف المسير ويثوب صاحبنا إلى رشده .. ها قد وصلنا للقبر المنشود .. يتوقف عن بعد ويلمح اللحاد وهو يفتح القبر .. ينظر فى وجوه المحيطين به وهى تنضح بالأسى والخوف والرجاء .. أسى المكلومين فى الأخاديد التى حفرتها الدموع على وجوههم .. الخوف البادى فى ارتعاش الشفاه وهى تتمتم بالدعاء بالرحمة إذا صاروا إلى ما صارإليه الفقيد .. والرجاء البادى فى أكف ضراعتهم إلى السماء بالمغفرة والجنة .. ينزل الجسد المسجى بالكفن إلى القبر ثم يهال التراب .. تزداد الأنوف احمراراً فى ظهيرة هذا اليوم البارد .. ثم هبت نسائم لطيفة برائحة عطرة وأشرقت الشمس فجأة من بين السحب القاتمة لتمنح الجمع الدفء والطمأنينة .. نور .. لعل الله تقبل النفس المطمئنة والروح الطيبة .. نظر إلى السماء ليرى عصافير تزقزق فى سعادة فأيقن أنها تزف الروح إلى بارئها .. أو لعلها ملائكة رحمة ونور .. يمر الزمان وينمو العشب فوق القبر حاملاً بين عروقه حياة .. ووسط الخضرة الغضة تتفتح وردة بيضاء حملت نقاوة الروح ورحمة البارىء .. أراد أن يقطفها فهى تحمل أثر الحبيب الراقد بين التراب .. إلا أنه تركها لتنمو وتتشبع من الجسد المسجى تحتها .. لتكون رحمة .. و نور.

.. سبحان من جعل هذه المخلوقات الخضراء الرقيقة تنمو من رفات من فقدناهم وتتغذى على أجساد الأحبة لتحمل جزءاً من أرواحهم ..

ليست هناك تعليقات: